لم تكن حادثة الإسماعيلية الأخيرة مجرد جريمة قتل عادية، بل مأساة إنسانية صادمة تجاوزت حدود الفعل الإجرامي لتكشف عن خلل عميق في المنظومة الأسرية والنفسية والقيمية التي يعيشها بعض شباب هذا الجيل. أن يقدم فتى في عمر الزهور على قتل صديقه وتقطيع جسده إلى ستة أجزاء، ليس تصرفًا لحظيًا أو انفعالًا عابرًا، بل نتيجة تراكُمات من الإهمال، والعزلة، والتأثر المَرَضي بمحتوى عنيف أتاح له أن يرى القتل وكأنه مشهد سينمائي.
تؤكد التحقيقات أن الجاني كان متأثرًا بشخصية “ديكستر” — بطل المسلسل الأمريكي الذي يعمل محللًا جنائيًا نهارًا وقاتلًا متسلسلًا ليلًا — فقام بتقليده في طريقته البشعة بتقطيع الجسد وإخفاء الأجزاء. هذا التقليد الأعمى يجسد كيف تحولت بعض الأعمال الدرامية الدموية إلى مرجع خطير للأطفال والمراهقين الذين يشاهدونها دون رقابة، فيتقمصون البطل الإجرامي بوصفه نموذجًا للذكاء أو القوة، في حين يغيب عنهم تمامًا أن الدراما لا تبرر الجريمة ولا تمجدها.
من الناحية القانونية، يخضع الجاني لأحكام قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته، والذي يفرق بين الحدث المميز وغير المميز. فإذا كان عمره أقل من خمس عشرة سنة لا يسأل جنائيًا بالمعنى التقليدي، أما إذا تجاوزها، فيُحال إلى محكمة الجنايات مع تطبيق المواد 111 و112 من قانون الطفل التي تمنع الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد على الحدث، وتستبدله بعقوبة لا تزيد على خمس عشرة سنة. ورغم فظاعة الواقعة، فإن المبدأ الدستوري الراسخ في مصر يظل حاضرًا: “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، و“الحدث لا يُعاقب كالبالغ بل يُعالج كمريض يحتاج إلى تقويم”.
التقرير النفسي في مثل هذه القضايا يلعب الدور الحاسم، إذ يحدد ما إذا كان الجاني في حالة إدراك وتمييز أثناء ارتكاب الجريمة أم كان يعاني اضطرابًا نفسيًا أفقده السيطرة على سلوكه. بعض الأطباء النفسيين أشاروا إلى احتمال إصابته بما يسمى “اضطراب الشخصية الانفصامية” أو “اضطراب التقليد القهري”، وهو نوع من التعلق المرضي بشخصيات خيالية أو رموز درامية، حيث يعيش المراهق داخل عالم متخيل يتقمص فيه هوية القاتل أو المنتقم.
ومع ذلك، فإن الخطأ لا يقع على المراهق وحده. فالمسؤولية الأخلاقية تمتد إلى الأسرة التي تركت ابنها يعيش عالمًا افتراضيًا دون رقابة أو توازن واقعي. كثير من الأهالي في عصر السرعة والانشغال يظنون أن تأمين المأكل والملبس كافٍ لتربية الأبناء، متناسين أن الحضور النفسي والعاطفي أهم كثيرًا من الحضور المادي. ترك الأبناء لساعات طويلة أمام الشاشات دون تفاعل أو توجيه يجعلهم ضحايا لما تبثه هذه المنصات من نماذج عنيفة ومفاهيم مضطربة.
الطفل لا يتحول إلى قاتل فجأة، بل يُعاد تشكيل وعيه تدريجيًا في بيئة غابت عنها القدوة والمراقبة. والمشهد الذي هزّ الإسماعيلية ليس إلا النتيجة المؤلمة لصمت طويل داخل البيوت. لذلك، على كل أب وأم أن يدركا أن الرقابة لا تعني المنع فقط، بل الفهم والمشاركة. مشاهدة المحتوى مع الأبناء، مناقشة ما يرونه، تعليمهم التمييز بين الخيال والواقع، كلها أدوات وقائية أكثر فاعلية من أي عقوبة لاحقة.
أما من الناحية الإنسانية، فإن أسرة المجني عليه تمرّ بصدمة لا تقل قسوة عن الجريمة نفسها. الدعم النفسي والاجتماعي لهم واجب أخلاقي ومجتمعي قبل أن يكون قانونيًا. يحتاجون إلى جلسات دعم متخصصة، ومساندة من وزارة التضامن الاجتماعي والجمعيات الأهلية لتجاوز الصدمة. ففقدان ابن بتلك الطريقة الوحشية يخلّف جرحًا لا يندمل بسهولة، والمجتمع لا يجب أن يكتفي بالتعاطف المؤقت، بل أن يُقدّم الرعاية الفعلية لأُسرة عانت مأساة مركّبة بين الفقد والذهول.
القانون هنا ليس غاية، بل وسيلة لحماية المجتمع ومنع التكرار. الردع ضروري، لكن الأهم هو الوقاية. لابد من توسيع دور الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين في المدارس، وإنشاء وحدات متخصصة لرصد السلوك العدواني عند المراهقين والتدخل المبكر قبل أن يتحول إلى عنف حقيقي. كما يجب وضع ضوابط رقابية على المحتوى الإعلامي الموجّه للمراهقين، مع تعزيز الوعي لدى الآباء حول خطورة ترك الأطفال دون تفاعل أو متابعة.
في النهاية، العدالة الجنائية ستأخذ مجراها، لكن العدالة الاجتماعية لا بد أن تبدأ من كل بيت. الجريمة لم تولد من فراغ، بل من غياب تواصل أسري وضمير تربوي. إنّ الطفل الذي يقلد بطلًا خياليًا في القتل إنما يبحث في أعماقه عن هوية مفقودة واهتمام مفقود. وإنقاذ الأبناء لا يكون بالصراخ عليهم بعد الكارثة، بل بالاحتواء والحديث والرقابة قبل أن يتسرب العنف إلى داخل عقولهم البريئة