عاجل

ظلّت الجمعيات الخيرية في مصر، لعقود، حبيسة صورة نمطية تُختزل في توزيع كراتين المواد الغذائية، وتقديم مساعدات عينية وقتية، كنوع من "الاستجابة السريعة" للاحتياجات المتكررة للفئات الفقيرة والمهمشة. هذه الصورة، رغم ما تحمله من نوايا نبيلة، باتت تطرح تساؤلات عميقة حول جدوى هذا الدور التقليدي، وحدود أثره الحقيقي في معالجة الأزمات الاجتماعية المتجذّرة.
في وقت أصبحت فيه التحديات المجتمعية أكثر تعقيدًا، لم تعد المساعدات الاستهلاكية كافية لتغيير واقع الفقر أو خلق فرص للاندماج الاجتماعي. لأن ما يُستهلك خلال أيام، لا يُحدث تحوّلًا في حياة إنسان، ولا يؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الاستقلال والكرامة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى تحول نوعي في فلسفة العمل الخيري، من الإعانة المؤقتة إلى التمكين الدائم. جمعيات تُعيد النظر في رسالتها، وتتحول إلى كيانات تنموية تُعنى ببناء القدرات، وتعليم المهارات، وتوفير أدوات الإنتاج، وربط الأفراد بسوق العمل. فالعطاء الحقيقي ليس في منح وجبة طعام، بل في فتح باب لفرصة، وتمهيد طريق نحو حياة منتجة.
الأسر المعيلة مثلًا، لا تحتاج فقط إلى الدعم الغذائي، بل إلى ماكينات خياطة، أدوات حرفية، أو رأس مال بسيط لمشروعات منزلية، مصحوبًا بتدريب، وإرشاد، وتسويق. هذا النموذج ليس خيالًا، بل واقعًا بدأ يتحقق بالفعل على استحياء، من خلال مبادرات فردية لجمعيات تنموية بدأت تخرج عن النمط، لكنّها ما تزال بحاجة إلى إطار مؤسسي، وخطط طويلة المدى تقيس الأثر وتكرّر النجاح.
ولكي تُحدث الجمعيات تغييرًا حقيقيًا، يجب أن تربط بين التدريب والتوظيف، وأن تبني شراكات مع القطاع الخاص، الذي يمتلك القدرة على فتح أبواب واسعة للتشغيل، والتمويل، والدعم الفني. فالتكامل بين المجتمع المدني والقطاع الاقتصادي هو الطريق الأسرع لتحقيق التنمية الحقيقية.
لكن هذا التحول يواجه تحديات لا يمكن إنكارها، من أبرزها غياب التمويل المستدام، وضعف البنية المؤسسية، وافتقار الكوادر القادرة على إدارة مشروعات تنموية معقدة. أضف إلى ذلك، أن جزءًا من ثقافة التبرع ما زال يفضّل العطاء العيني، لسهولة قياسه وشعور فوري بالرضا، متجاهلًا أن ماكينة صغيرة قد تُدر دخلًا شهريًا، بينما كرتونة غذاء لا تكفي لأسبوع.
ولبناء ثقة مجتمعية في هذا التحول، لا بد أن تكون الجمعيات أكثر شفافية، تعرض تجارب النجاح، وتُشرك المستفيدين في تصميم البرامج. الإعلام كذلك يجب أن يلعب دورًا محوريًا، يتجاوز توثيق لحظات العطاء الموسمية، ليروي قصص النجاح، ويلقي الضوء على مشروعات التمكين كأولوية وطنية.
أما على المدى الأبعد، فإن تمكين الفئات المهمشة لا يُسهم فقط في تخفيف الفقر، بل يعيد التوازن للطبقة الوسطى، ويمنع شرائح واسعة من الانزلاق إلى الهشاشة الاقتصادية. فكل مشروع صغير مدعوم، وكل مهارة مكتسبة، تمثّل خطوة نحو استقرار اجتماعي أكبر، وتنمية أكثر عدالة.
لقد حان الوقت لإعادة تعريف العمل الخيري في مصر. أن نخرج به من إطار الإغاثة المؤقتة، إلى مشروع مجتمعي شامل، يُراكم الأثر، ويبني الإنسان. فصورة العطاء، لم تعد تكتمل بكرتونة طعام تُوزع، بل بحياة تُبنى، ومستقبل يُصنع.

تم نسخ الرابط