قالت لي: أريد أن أترك مصر وأعيش في دولة أخرى تعيش بسلام ولا يتآمر عليها أحد؟! قلت: مصر دولة جبارة منذ فجر التاريخ، علّمت العالم وسادته في كل العلوم، وأذهلته بحضارتها التي لم نفك معظم ألغازها حتى الآن. كانت مصر الدولة العظمى الوحيدة لآلاف السنين، لا ينازعها أحد، ولا يقدر على قهرها أحد، ثم وهنت في غفلة من الزمن بحكام ضعاف، فاحتلها الفرس، والإغريق، والرومان، وعرب الجزيرة، وعرب شمال إفريقيا، وفي كل مرة يتكيف أهلها الصابرون مع كل احتلال، فيتعلمون لغته، ويؤمن بعضهم بدينه.
ولم يحكم مصر منذ عهد المصريين القدماء حتى سبعين سنة مضت أحد من أهلها بجيناته المصرية الخصبة؛ لذا لم يكن وازع المحتل في كل العصور إحياء مصريتنا وقوتنا، واستمرار عاداتنا وتقاليدنا؛ بل كان همه فرض سلطانه، وعاداته، وتقاليده، ونهب ثروة المصريين، وإفقارهم، ثم استعبادهم. ومع ذلك، وقف أهل مصر وراء الفاطميين (الغُرباء عنهم)، فتوسعت إمبراطوريتهم من المحيط إلى الخليج، ووقفوا وراء الأيوبيين (الغُرباء عنهم) فانتصروا، وقهروا الغزوات الصليبية، ووقفوا وراء المماليك (الغُرباء عنهم أيضًا)، فتوسعت دولتهم، وهزموا التتار. وحين وهنت دولتهم، وأفقرتهم الجباية والظلم، غزاهم العثمانيون واحتلوهم، ثم الفرنسيون. وحين جاء محمد على (الغريب عنهم أيضًا) وقفوا إلى جانبه، ووراءه، وساندوه، فكاد يعانق السماء بفتوحاته، وكان نصيبهم منه أن انتزع منهم أراضيهم، ووزعها ظلمًا على من يقدم له فروض الولاء والطاعة. وحين وهنت مصر ثانيةً في عصر من خلفوه، غزاها الإنجليز واحتلوها، وأذلوا شعبها الراضي الصابر!
لم يأت قط من يفجر طاقة المصريين الكامنة والجبارة، أو يحسن استغلالها لصالح مصر. كان محمد نجيب وعبد الناصر أول مصريين يحكمانها؛ لذا وقف الشعب- بصدق- خلفهما كما لم يقف خلف أحد من قبل، أحسوا لأول مرة أنهم باستطاعتهم ملامسة السماء بطموحهم، فزعيمهم "واحد منهم"، لونه لون بشرتهم، وأحلامه من أحلامهم، يشعر بالفقير، والعاجز، والمغلوب على أمره، فاستطاع في لحظات أن يفجر قوتهم الجبارة، وقدرتهم الكامنة، فوقفوا إلى جانبه، وحوله، ورفعوه فوق أعناقهم.
وفي سنوات معدودة عادت إلى مصر قوتها الجبارة والمسيطرة تمامًا عربيًا وإفريقيًا، وأصبح صوتها مسموعًا عالميًا، يعمل له العدو والصديق ألف حساب. هذه هي مصر، وهذا هو شعب مصر.. شعب له طاقات مذهلة، فيه الثقافة، والأدب، والفن، والعلم.. عنده كل مصادر الثروة، ولكن أولها وأهمها هو الشعب نفسه.. لها علماؤها البارزون في كل مكان في العالم، ولديها ثروة سياحية لم تستغل بعد، ولديها موقع جغرافي عبقري لا يوجد لدولة مثله.. شعب ٦٠٪ منه في سن الشباب الذي يستطيع أن ينحت الصخر بيديه إذا أعطيناه الأمل، والقدوة، والفرصة، والتعليم الصحيح.
قلتها من قبل، وأقولها ثانية: مصر دولة جبارة، ولكنها لم تستثمر بعد، ولو عُشر قوتها الكامنة، وفي سنوات قليلة يمكنها أن تصبح قوة عظمى مؤثرة في هذا العالم، ولكنها- مع الأسف- هانت على أهلها، وانسلخت من جذورها، وسمحت لرياح الشرق، ورماح الغرب أن تعبث في هُويتها، وتفصلها عن جذورها المصرية الأصيلة، فهذا يتآمر على أرضها، وذاك يحجز نيلها، والباقي منهم يريدها ذليلة منتكسة الرأس. فلو قامت مصر ثانية لارتعد الجميع من حولها، وعمل الكون لها ألف حساب وحساب! ورغم أنف المتآمرين عليها، ستقوم مصر ثانية بالمصريين الذين يحملون جيناتها العريقة! قالت: ٩٩٪ من جيناتي مصرية أصيلة…وسأبقى بها!