يشهد العالم في عام 2025 تصاعداً لافتاً في التنافس الدولي بين القوى الكبرى، لكن هذا التنافس لم يعد مقتصراً على الجوانب العسكرية أو السياسية التقليدية، بل انتقل إلى مستويات أكثر تعقيداً ترتبط بشكل مباشر بثنائية الأمن الاقتصادي والأمن الاستراتيجي فالدول باتت تدرك أن السيطرة على الموارد الحيوية، والممرات التجارية، وسلاسل الإمداد، والتكنولوجيا المتقدمة، لا تقل أهمية عن امتلاك الأسلحة أو القواعد العسكرية، بل ربما تتجاوزها في التأثير على المدى البعيد ومع تعقّد العلاقات الدولية، أصبح الحفاظ على الأمن الاقتصادي شرطاً أساسياً لتحقيق التفوق الاستراتيجي، والعكس صحيح، ما جعل التوازن بينهما تحدياً رئيسياً في سلوك الدول وسياساتها.
في السنوات الأخيرة، برزت أزمات كبرى – بدا من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا – فكشفت هشاشة النظام الاقتصادي العالمي، وأظهرت كيف يمكن أن تتحول أدوات مثل الغاز، الحبوب، الرقائق الإلكترونية، أو شبكات الإنترنت إلى أسلحة غير تقليدية تُستخدم في صراع النفوذ هذا الواقع دفع العديد من الدول إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن، فلم يعد يُقاس بعدد الدبابات أو الطائرات فقط، بل أصبح مرتبطاً بالقدرة على تأمين الغذاء والطاقة، وحماية العملة الوطنية، وضمان استقلالية القرار الاقتصادي.
الولايات المتحدة مثلاً، بدأت منذ أعوام في تطبيق سياسة "إعادة التموضع الصناعي"، من خلال إعادة الشركات الكبرى إلى الداخل وتقليل الاعتماد على الصين في التصنيع والتكنولوجيا وبالمقابل، كثّفت الصين استثماراتها في الموارد الطبيعية حول العالم، ووسّعت تحالفاتها الاقتصادية لتعويض الضغوط الغربية، من خلال مشاريع بنية تحتية عملاقة وشراكات تجارية بديلة أما الاتحاد الأوروبي، فبات حبيساً بين ضغوط تأمين حاجاته من الطاقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ورغبته في الحفاظ على استقلاله الاقتصادي والتكنولوجي.
هذا التنافس الاقتصادي أخذ طابعاً استراتيجياً، حيث باتت الدول تُوظف المؤسسات المالية، والاتفاقيات التجارية، والعقوبات الاقتصادية، وحتى الأبحاث العلمية في معركة النفوذ لم تعد الحرب تُخاض بالجيوش فحسب، بل بالعملة، والتقنيات، والبيانات، والموارد النادرة التوتر بين واشنطن وبكين حول تكنولوجيا أشباه الموصلات، أو السباق على المعادن النادرة في أفريقيا، أو الصراع على الممرات البحرية، كلها أمثلة على كيف أصبح الأمن الاقتصادي أداة من أدوات المواجهة الاستراتيجية.
وفي خضم هذا التداخل، تواجه الدول متوسطة وصغيرة الحجم معضلة كبيرة هل تنحاز إلى أحد الأقطاب لحماية أمنها الاقتصادي أم تحاول المناورة للحفاظ على هامش من الاستقلال فالكثير من هذه الدول باتت تقع في قلب الصراع، مستهدفة من قبل الجميع باعتبارها مناطق نفوذ محتملة أو خزانات للموارد وهو ما يجعل قراراتها أكثر صعوبة، خاصة في ظل غياب نظام دولي يضمن العدالة أو يحمي المصالح المتبادلة.
لقد أدى هذا التنافس إلى تآكل فكرة العولمة كما عُرفت في العقود الماضية، حيث انكفأت الدول على نفسها وأعادت بناء استراتيجياتها على أسس الحذر، والتأمين الذاتي، وتكوين شبكات تحالفات اقتصادية مغلقة النتيجة هي نظام دولي أقل تعاوناً وأكثر تصادماً، حيث تُقاس العلاقات بالربح والخسارة لا بالمبادئ المشتركة، ويُعاد تعريف "العدو" لا على أساس الأيديولوجيا، بل على أساس من يتحكم في مصدر التهديد الاقتصادي.
وهكذا يبدو أن العالم مقبل على مرحلة عنوانها "التوازن الحرج"، حيث لم يعد بالإمكان فصل الاقتصاد عن الاستراتيجية، ولا الحديث عن الاستقرار دون تأمين الموارد والتقنيات في هذا السياق، لا تُطرح الأسئلة فقط حول من الأقوى عسكرياً، بل من الأقدر على الصمود اقتصادياً، ومن الأكثر مرونة في إدارة أزماته الداخلية والخارجية إنه سباق معقد ومفتوح، تتحدد نتائجه ليس فقط في ساحات المعارك، بل في المصانع، والأسواق، والموانئ، ومراكز الأبحاث