تبدأ الحكاية ليس في غزة أو رام الله فقط، بل في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، وفي مقرات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وفي غرف التحرير الإخبارية في لندن، وعبر شاشات الهواتف في كل أنحاء العالم إنها قصة اختبار، اختبار لمبادئ كبرى رفعها العالم بعد حروب طاحنة، مبادئ مثل السيادة، وحق تقرير المصير، وحقوق الإنسان، وحماية المدنيين فلسطين هي المعمل الذي تُختبر فيه صحة هذه المبادئ وقوة من يدّعون الدفاع عنها كل صورة تخرج لطفل تحت الأنقاض، كل فيديو لأم تبكي على بيت دُمّر، كل خبر عن مستشفى استُهدف، هو ليس مجرد خبر عابر، إنه استفهام كبير موجه لضمير الإنسانية جمعاء أين العدل؟ أين المساواة؟ أين القانون الدولي الذي أنفقنا عقودًا في بنائه؟ المشهد يذكرنا بفصول مأساوية من التاريخ، حيث وقف العالم متفرجًا بينما كان يباد شعب أو تحتل أرض، واعدًا نفسه بألا يتكرر ذلك أبدًا لكن التاريخ يعيد نفسه ليس كنسخة طبق الأصل، بل كامتحان ناجحون فيه قلة، وراسبون فيه كثيرون نرى اليوم خطابات تملؤها الشعارات الرنانة عن "حق الدفاع عن النفس" بينما يُحرم شعب تحت الاحتلال من أبسط حقوقه، نرى فيتوًّا يُستخدم لعرقة محاسبة المحتل، ونرى تمويلًا وأسلحة تُرسل لدعم آلة الحرب بينما المساعدات الإنسانية تتعثر على الحواجز هذا التناقض الصارخ هو الذي يكشف هشاشة النظام العالمي، فهو نظام قائم على القوة أكثر من كونه قائمًا على الحق، على المصالح أكثر من المبادئ لكن الاختبار الحقيقي لم يعد محصورًا في الحكومات والدبلوماسيين، لقد انتقل إلى الشعوب، إلى الشارع في كل عاصمة غربية وشرقية، إلى طلاب الجامعات الذين خرجوا يطالبون بالعدالة، إلى الصحفيين المستقلين الذين يخاطرون بحياتهم لنقل الحقيقة، إلى الأكاديميين والفنانين الذين يرفضون الصمت هؤلاء هم من يكتبون فصلًا جديدًا من فصول الضمير العالمي، فصلًا يرفض أن تكون الإنسانية مقسمة إلى درجات، وأن تكون الدماء مختلفة في قيمتها إن صرخة "كفى" التي تسمع من جاكرتا إلى نيويورك هي إعلان أن النظام القديم، نظام الكيل بمكيالين، يعيش أيامه الأخيرة العالم يشهد تحولًا، قد يكون بطيئًا ومؤلمًا، لكن اتجاهه واضح، نحو رفض أن تكون فلسطين مجرد قضية سياسية عالقة، بل هي البوصلة الأخلاقية التي تُحدد اتجاه الإنسانية هل سنشهد انهيارًا تامًا للنظام الحالي لصالح نظام أكثر عدالة؟ أم أن القوى القديمة ستتمكن من إطالة عمرها؟ الإجابة ليست في كتب التاريخ بعد، بل تُكتب الآن في قلوب وعقول الملايين الذين نظروا إلى فلسطين فرأوا فيها اختبارًا لكرامتهم الإنسانية قبل أن تكون اختبارًا لكرامة الفلسطيني وحده النهاية لم تُكتب بعد، والمعركة الحقيقية هي معركة الضمير، ومعركة الضمير لا تُخسر أبدًا لمن يصمد فيها.