عاجل

في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، تعود مصر لتثبت من جديد أنها صمام الأمان وصاحبة الكلمة الفصل في أزمات الشرق الأوسط، وأنها الدولة التي لا تغيب عن مشهد القرار حين يتعلق الأمر بالسلام أو بالحرب، والتي تتحرك دائما وفق ثوابتها الراسخة دفاعا عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وما يجري اليوم في شرم الشيخ من مفاوضات مكثفة أفضت إلى إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار وتوقيع المرحلة الأولى من الاتفاق بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ليس إلا انعكاسا لمكانة مصر ودورها القيادي وتجسيدا لقدرتها المستمرة على صياغة موازين القوى وإدارة الأزمات بعقل الدولة وخبرة التاريخ، لتؤكد للعالم أن القاهرة لا تنتظر الأحداث بل تصنعها، ولا تتأثر بالموجات بل هي التي تحدد اتجاهها، ليس فقط في الشرق الأوسط بل على الساحة العالمية بأكملها.

لقد كانت كلمات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مساء الأربعاء بأن “وقف إطلاق النار تم التوصل إليه بجهود مصرية” وإعلانه أنه “قد يتوجه إلى مصر والشرق الأوسط نهاية الأسبوع أو يوم الأحد”، إشارة بالغة الدلالة على حجم الدور المصري وثقله في المعادلة الإقليمية فحين يعلن رئيس أكبر دولة في العالم استعداده للحضور إلى مصر بعد توقيع الاتفاق، فإن ذلك لا يعكس فقط تقديرا للرئيس عبدالفتاح السيسي وجهوده، بل يعكس أيضا إدراكا أمريكيا بأن مفتاح الحل في الشرق الأوسط هو في يد القاهرة، وأن لا تهدئة ولا سلام دون المرور عبر بوابتها السياسية.

مصر.. صانعة التوازن في عالم مضطرب

منذ اندلاع الحرب على غزة، لعبت مصر الدور الأكثر صعوبة وتعقيدا، حيث جمعت بين العمل السياسي الرفيع المستوى عبر اتصالات مع الأطراف الدولية والإقليمية، والتحرك الإنساني عبر إدخال المساعدات والإغاثة عبر معبر رفح، والتحرك الأمني والاستخباراتي عبر إدارة مفاوضات الأسرى ووقف النار.
ولأن القاهرة لم تنحاز إلا للحل السياسي، فقد اكتسبت احترام العالم وثقة جميع الأطراف، واليوم، عندما تتجه الأنظار إلى شرم الشيخ، فإنها تتجه إلى المكان الذي تجتمع فيه القوى المتصارعة بحثا عن السلام، وإلى الدولة التي تملك القدرة على تحويل لحظة الصراع إلى فرصة للتهدئة والاستقرار.

التحركات المصرية في هذا التوقيت ليست مجرد رد فعل، بل تعبير عن رؤية استراتيجية شاملة لإدارة الأزمات الإقليمية فمصر تدرك أن استمرار الحرب في غزة لن يهدد فقط الشعب الفلسطيني، بل سيزعزع استقرار المنطقة برمتها، وسيفتح الباب أمام موجات من التطرف والعنف والفوضى التي تهدد الأمن الإقليمي والعالمي ومن هنا جاءت مبادرة الرئيس السيسي بدعوة الأطراف الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى دعم الحل السياسي والضغط على إسرائيل لوقف العدوان، كما جاءت دعوته للرئيس ترامب لحضور توقيع الاتفاق، كرسالة رمزية عميقة تؤكد أن مصر تسعى لأن تكون أرض السلام كما كانت من قبل أرض النصر.

الدبلوماسية المصرية.. إرادة لا تعرف التراجع

المتابع لمسار الأحداث خلال الأشهر الماضية يلاحظ أن مصر واجهت ضغوطا هائلة ومحاولات من بعض القوى الإقليمية لتقويض دورها أو تجاوزها في الملف الفلسطيني، لكن القاهرة واجهت كل ذلك بهدوء وحكمة وثقة في النفس إلى أن فرضت واقعا جديدا على الساحة الدولية.
إنها المرة الأولى منذ سنوات طويلة التي تعترف فيها واشنطن والعواصم الكبرى بأن مصر هي الطرف القادر فعليا على جمع الفصائل الفلسطينية والإسرائيليين على مائدة واحدة، وأنها الوحيدة التي تمتلك مفاتيح الحل بفضل توازن علاقاتها مع الجميع ومصداقيتها التاريخية في دعم السلام العادل.

الدبلوماسية المصرية اليوم تسجل صفحة جديدة من صفحاتها المضيئة، وهي لا تتحدث بل تعمل بصمت، وتتحرك بإرادة، وتضع مصالح الشعوب قبل حسابات القوى وهذا ما يفسر لماذا يصف كثير من المراقبين أن مصر فرضت إرادتها على العالم، ليس بالقوة العسكرية، بل بقوة الموقف ووضوح الرؤية وثبات المبادئ.

مغزى التحرك الأمريكي

تصريحات الرئيس ترامب لم تأتِ من فراغ، بل تمثل تطورا نوعيا في الموقف الأمريكي، فهي تعكس تحولا من مرحلة المراقبة إلى مرحلة المشاركة الفاعلة في جهود التهدئة، وهو ما يمكن اعتباره نجاحا مصريا مزدوجا: نجاحا في جذب الاهتمام الدولي مجددا نحو الحل السياسي، ونجاحا في دفع الإدارة الأمريكية إلى الانخراط بجدية في مفاوضات تنطلق من رؤية مصرية خالصة.

وإذا ما تحققت الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب إلى القاهرة أو شرم الشيخ، فستكون أول زيارة له منذ توليه الحكم، وتحمل رسائل واضحة للعالم مفادها أن القاهرة هي بوابة السلام ومركز الثقل في الشرق الأوسط.

رسالة مصر إلى العالم

إن ما تقوم به مصر اليوم هو تجسيد عملي لفلسفة الرئيس عبدالفتاح السيسي في السياسة الخارجية القائمة على “السلام القوي لا السلام الضعيف”، وعلى رفض الحلول المؤقتة أو الهشة التي لا تحقق العدالة ولا تضمن الأمن المستدام، وفي الوقت الذي تتحدث فيه دول كبرى عن وقف إطلاق نار مؤقت، تصر مصر على أن يكون وقفا دائما وشاملا، يقود إلى مسار سياسي يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني ويضمن أمن واستقرار المنطقة بأسرها.

هذه الرؤية المتماسكة هي التي جعلت العالم يحترم مصر ويعود إليها كلما اشتدت الأزمات، وهي التي جعلت حتى القوى العظمى تعترف بأن القاهرة لا تدار من أحد، بل تدير المواقف برؤية مستقلة ومسؤولية تاريخية.

حضور الرئيس الأمريكي إلى شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف الحرب في غزة، إذا تحقق، لن يكون مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل محطة مفصلية في تاريخ المنطقة ، إنه تحول استراتيجي يعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط، ويكرس القيادة المصرية كقوة إقليمية لا غنى عنها في إدارة ملفات الأمن والسلام، ويمنح القضية الفلسطينية زخما وشرعية دولية جديدة، فمن قلب شرم الشيخ، تصنع مصر اليوم السلام كما صنعت النصر بالأمس، وتتشكل ملامح مرحلة جديدة عنوانها أن القاهرة هي مركز القرار الإقليمي، وأن السلام لا يمر إلا عبرها.

إنه نصر يبدأ من القاهرة… بعد أن صمدت غزة، وانتصر الوعي، وتغير ميزان المعادلات في المنطقة.

تم نسخ الرابط