عاجل

في عالم يفيض بثروات زراعية هائلة، حيث تزهر الحبوب في سهول شاسعة وتتدفق الأنهار بمياه الري، لا يزال الجوع سلاحاً فتاكاً في ترسانة الحروب الحديثة، سلاح لا يقتل بالرصاص أو القنابل، بل بالحظر والحصار والاحتكار، إنه أقسى أشكال الصراع وأكثرها وحشية، حيث يتحول رغيف الخبز وكوب الماء إلى أدوات للضغط السياسي، وأدوات لاستسلام شعوب بأكملها هنا تبرز معضلة إنسانية وقانونية عميقة كيف يمكن للقانون الدولي أن يحول السيادة الغذائية من مفهوم طموح إلى حق إنساني ملزم، يحاسب من يستخدم الطعام سلاحاً السيادة الغذائية، كمفهوم، تتجاوز مجرد توفير الغذاء، إنها الحقيقة التي يجب أن تتحكم كل أمة في مواردها الزراعية، وأن تحدد سياساتها الغذائية دون إملاءات خارجية، وأن يكون لشعبها الأولوية في الاستفادة من خيرات أرضها، ولكن هذا الحقيقة تصطدم بواقع مرير، حيث تقوم دول كبرى، بل جماعات مسلحة، باحتكار الغذاء أو منع وصوله عن مناطق معينة كتكتيك حربي، أو تستخدم الدول صادراتها الغذائية كأداة للابتزاز الجيوسياسي، مما يخلق مجاعات مصطنعة تنتهك كرامة الإنسان بشكل صارخ

القانون الدولي الإنساني، ممثلاً في اتفاقيات جنيف، يحظر صراحة تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، ويعتبره جريمة حرب، لكن هذا الحظر غالباً ما يكون حبراً على ورق في ظل غياب آليات تنفيذية فعالة، وتفسيرات فضفاضة للظروف "الاستثنائية"، الأكثر إشكالية هو أن هذا الحظر يركز على فترة النزاع المسلح، بينما تمارس ضغوط غذائية هائلة في أوقات السلم عبر عقوبات اقتصادية شاملة أو حظر تصدير الحبوب كإجراء عقابي، مما يخلق حالة من انعدام الأمن الغذائي المزمن الذي يقتل بطيئاً هنا يجب على المجتمع الدولي أن يتجرأ على خطوة تاريخية الاعتراف بالسيادة الغذائية كحق من حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف، وربطها بشكل واضح بالحق في الحياة والكرامة الإنسانية، مما يفرض التزاماً إيجابياً على الدول ليس بعدم استخدام الغذاء سلاحاً فحسب، بل وبتسهيل وصول الإغاثة الغذائية ومنع أي طرف من عرقلة هذا الوصول

ولكى  يتحويل هذا المبدأ إلى واقع، يجب إنشاء آلية دولية مستقلة للرصد والإبلاغ، تتمتع بسلطة تحديد ومنع انتهاكات الحق في الغذاء قبل أن تتحول إلى مجاعة، وأن يكون لمجلس الأمن الدولي، تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، صلاحية التدخل الفوري لفرض ممرات إنسانية آمنة وكسر الحصار الغذائي على أي منطقة، مع اعتبار انتهاك هذه الممرات جريمة ضد الإنسانية كما يجب أن تتحمل الدول المصدرة الكبرى للمواد الغذائية مسؤولية أخلاقية وقانونية خاصة، بعدم استخدام صادراتها كأداة للضغط السياسي، ويمكن أن ينشأ نظام تحذير مبكر دولي لمنع أي دولة من فرض حظر على صادرات الغذاء بشكل أحادي دون مبرر إنساني قاهر بدون هذه الآليات، ستبقى الدعوة للسيادة الغذائية شعاراً أجوف، وسيستمر الأقوياء في استخدام الجوع كسلاح رخيص وفعال ضد الضعفاء، مما ينتهك ليس فقط أجسادهم، ولكن روح الإنسانية جمعاء، ويذكرنا بأن القانون الدولي سيبقى غير مكتمل طالما أنه عاجز عن حماية حقوق الإنسان والحق في البقاء على قيد الحياة.

تم نسخ الرابط