عاجل

كتبت ستة مقالات متتالية عن حرب أكتوبر المجيدة التي عاصرتها شابًا يافعًا. ولقد أخذت مني جهدًا كبيرًا في إعدادها، يمتد إلى عدة سنوات؛ من أجل التأكد من صحة كل معلومة من جميع المصادر، وهذا طبعي في ذكر أحداثنا التاريخية المهمة، خاصة في مواجهة رياح شرقية ورماح غربية تحاول أن تعصف بعقول أبنائنا وأحفادنا، وتطمس الحقائق وتشوهها عن عمد، وتهدف إلى مسخ هويتنا المصرية الأصيلة. ومع تصاعد نغمة الانهزامية والترديد الأعمي لـ"بروباجندا" العدو دون وعي أو إدراك، كان من الواجب على العقلاء ومحبي الوطن من جيلنا المعجون بحب وطنه أن يضعوا الحقيقة واضحةً جلية لكل من يريد أن يقرأ، ولكل من يحاول أن يفهم، ولكل من يطمح أن يدرك.

وهنا أذكر أسباب الانتصار الحقيقية العشرة في هذه المعركة المصيرية، ومنها الكثير الذي يمكن أن نستفيد منه  ونحن نبني بلدنا.

١- التعلم من أخطاء الماضي والاعتراف بها، وهو ما درسه القادة الجدد بوعي وفهم بعد هزيمة ٦٧، وهم قادة لم يقفوا ليتباكوا على الماضي، ولكنهم قرروا أن ينظروا إلى الأمام بتخطيط واعٍ، وإرادة صلبة. وكان من أهم التغييرات هي إيجاد الجندي المتعلم والقادر على فهم المعدات الحديثة واستخدامها.

٢- حائط الصواريخ الذي بناه المهندسون العسكريون في ٥٠ يومًا تحت القصف المستمر، وهو ما اعتقد الروس أنه يحتاج إلى ٩ أشهر، ومئات الخبراء. ولقد استفادت القيادة في عهد عبد الناصر من اتفاقية روجرز للسلام في نقل الحائط إلى غرب القناة ليحيّد تمامًا السلاح الجوي للعدو حتى ٢٥ كيلو مترًا شرق القناة، ويؤمن العبور الآمن للضفة الشرقية.

٣- تطوير الرادارات، وبعض الصواريخ والمعدات بعقول مصرية متعلمة على أعلى مستوى، لتكون مفاجأة كبيرة للعدو، وهو ما يماثل الآن القدرة على استخدام الذكاء الاصطناعي، والمسيرات الذكية.

٤- التفكير من خارج الصندوق، وقد ظهر ذلك واضحًا في كيفية التغلب على الساتر الترابي بخراطيم المياه، وهي فكرة نفذت في السد العالي. كذلك استخدام السلالم الليفية للصعود فوق الساتر الترابي، وفوق ذلك التدريب المستمر والشاق على طريقة العبور حتى درجات الإتقان.

٥- التمويه الدقيق والبالغ الحرفية من السادات، وخاصة عن الأصدقاء قبل الأعداء، فالخيانة من صديق أكثر فداحة من عدو يتجسس. كذلك الدراسة الواعية لتصرفات  فعل العدو وردوده. ولقد استخدم السادات عشرات الحيل البارعة حتى أنتج الغرب عنه فيلمًا وثائقيًّا أطلقوا عليه "مايسترو الخداع" Master of deception،  يشرحون فيه كيف خدع الغرب بكامله، وليس العدو وحده، وكيف استغل أشرف مروان في أكبر عملية خداع عرفتها الحروب.

٦- اختيار التوقيت المذهل من حيث الساعة واليوم، الذي بُني على حسابات دقيقة للمدة الزمنية التي يحتاج إليها العدو لاستدعاء الاحتياط، كذلك لاتجاه المياه في القناة، وموقع الشمس وقت العبور، والمدة الزمنية التي يحتاج إليها الجيش للعبور الآمن، فلم يكن العبور عشوائيًّا، ولكن كان كل ما فيه محسوبًا بدقة مذهلة.

٧- سلاح الـ"آر. بي. چي" المضاد للدبابات والمحمول على الكتف، وهو يناسب بسالة وجرأة وشجاعة الجندي المصري الذي يستطيع الاقتراب بشدة من الهدف وإصابته دون خوف أو تردد. وقد اتضحت أهمية هذا السلاح وحامله في معارك الدبابات في ٨ أكتوبر، وفي محاولة الدخول الفاشلة إلى الإسماعيلية، وكذلك في محاولات العدو الأربع الفاشلة لاقتحام مدينة السويس. فحين نسمع عن مجند واحد يحطم وحده ٢٣ دبابة و٣ مجنزرات، نصاب جميعًا بالدهشة والتعجب.

٨- القيادة الحكيمة والممثلة في جميع قادة الكتائب والفرق والجيوش والقوات، وكذلك القيادة العامة، فكل واحد منهم كان قدوة رائعة يُحتذى بها. ولقد كانوا على خُطى سلفهم من الذين استشهدوا بين جنودهم في حرب الاستنزاف، كالفريق عبد المنعم رياض، والفريق إبراهيم الرفاعي.

٩- الدبلوماسية الحكيمة التي توازن بين البدائل العسكرية والسياسية بحنكة شديدة، فحين كان هناك خيار جوهري بين القضاء التام على الثغرة وإبادة ١٠ آلاف من جنود العدو وكل دباباته ومدرعاته، ومن ثم الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة بعد تهديدها الصريح لنا، وبين قبول وقف إطلاق النار وفض الاشتباك، كانت الحكمة اختيار البديل الثاني رغم بداهة الاختيار الأول الذي كان سيشفي الغليل من الهزيمة السابقة.

١٠- الرهان الصائب على الإنسان المصري وقدراته المذهلة التي تظهر وقت الجد. فالشباب المصري يريد ثلاثة أمور: الأمل، والقدوة، والفرصة؛ ليصنع المعجزات. وفي أكتوبر ٧٣ أخذ شبابنا الثلاثة فأجاد وأبدع. كذلك الإنسان المصري في الجبهة الداخلية التي تماسكت تمامًا وقت الخطر، ووقفت بكل ثقلها خلف الجيش بنيانًا واحدًا، والقوة الناعمة المبدعة التي شحذت الهمم بفنها القوي.

تصوروا أننا في كل ما نعمل نختار القيادة الرشيدة والحكيمة، ونتعلم من أخطاء الماضي وندرسها ونصححها، ونستفيد من شبابنا المتعلم أقصى استفادة، ونعطيه الأمل والقدوة والفرصة، ونستخدم آخر ما توصل إليه العلم، ونطور ما بأيدينا، ونجيد فيما تميزنا به وناسب قدراتنا، ونتصرف باحتياط بالغ، وبحنكة شديدة وقت الاختيار الشائك، ونحسب كل ما نقوم به بدقة، ونتدرب عليه بإتقان، ونؤمن بقدراتنا ونفكر من خارج الصندوق لنضع الحلول، لو فعلنا ذلك لأصبحنا دولة عظمى، لا دولة متقدمة فحسب.

أتمنى أن نتعلم جميعًا من انتصارات أكتوبر التي أذهلت العالم أجمع، وزلزلت الأرض تحت أقدام عدو مختال بقوته. دمتم بخير أيها المصريون العظماء، ودامت مصرنا الحبيبة. 
 

تم نسخ الرابط