لم يعد مصطلح “برمجة العقول” مجرد فكرة نظرية تُناقش في كتب علم النفس أو الفلسفة، بل أصبح حقيقة ملموسة يعيشها الإنسان يوميًّا، شاء أم أبى. فنحن اليوم أمام واقع جديد تُعاد فيه صياغة العقول وتوجيهها، ليس عبر التعليم أو التلقين المباشر كما كان في الماضي، بل عبر الشاشات الصغيرة التي نحملها بأيدينا ونتعامل معها لساعات طويلة، دون أن نعي بالضرورة ما تزرعه فينا من أفكار ومفاهيم وسلوكيات.
برمجة العقول لا تعني السيطرة الكاملة على الإنسان، بل تشكيل وعيه تدريجيًّا من خلال التكرار المتواصل للرسائل - الكلمات، الصور، الرموز، والقصص - التي يتعرض لها يوميًّا. وتشير الأبحاث النفسية والاجتماعية إلى أن العقل البشري يتأثر بما يراه ويسمعه على نحو أعمق مما نتصور، وأن التكرار المستمر يحول الرسائل المتكررة إلى قناعات راسخة ومسلمات فكرية وسلوكية، دون وعي مباشر من الإنسان بأنه تم توجيهه بهذا الشكل.
وهنا تكمن الخطورة في زمن الخوارزميات، حيث لم يعد الإنسان يختار ما يشاهده بحرية مطلقة، بل تقرر له المنصات ما يجب أن يراه، بناءً على سجل تفاعلاته وسلوكياته السابقة.
في الماضي، كانت البرمجة الفكرية تتم غالبًا عبر المدرسة أو الأسرة أو المنبر أو الصحافة التقليدية. أما اليوم، فقد أصبحت الخوارزميات هي اللاعب الأساسي في هذه العملية. فمنصات التواصل الاجتماعي لا تعرض كل شيء، بل تختار ما تراه “مناسبًا” لك بناءً على تفاعلاتك وسلوكك الرقمي، فتضعك داخل فقاعة فكرية مغلقة. وهكذا يظن المستخدم أنه حر في اختياراته، بينما يتم توجيهه تدريجيًّا نحو اتجاه محدد دون وعي منه.
أبحاث متعددة أكدت هذه الحقيقة، من بينها تقرير Pew Research Center الذي أشار إلى أن نحو 20٪ من الأمريكيين يحصلون على أخبارهم من مؤثرين رقميين عبر وسائل التواصل، ما يعكس تحوّلًا في مصادر تشكيل الرأي العام.
كما كشفت دراسات منشورة على منصة arXiv عن ظاهرة “فقاعات الصدى” (Echo Chambers)، التي تجعل المستخدمين يعيشون داخل دوائر فكرية مغلقة يرون فيها فقط من يوافقهم الرأي، مما يُضعف التفكير النقدي ويُعمق الاستقطاب.
ومن أبرز مظاهر برمجة العقول اليوم ظاهرة “المؤثرين” أو ما يُعرف بالـ“إنفلوانسرز”. فقد أصبح هؤلاء قدوة جديدة لملايين الشباب الذين يتابعونهم بشغف، ويحاولون تقليدهم في المظهر والسلوك وطريقة التفكير. المشكلة ليست في وجود المؤثرين بحد ذاته، بل في الفراغ القيمي الذي يملؤه بعضهم حينما يتحول المظهر إلى بديل عن الجوهر، والشهرة إلى معيار للنجاح، واللهو إلى غاية في ذاته. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك مؤثرين إيجابيين يستخدمون المنصات ذاتها لنشر المعرفة والقيم الإنسانية، ويسهمون في استعادة التوازن الرقمي رغم طغيان المحتوى السطحي.
وقد حذرت دراسة حديثة لجامعة سيدني من الاستخدام المضلل لتأثير المؤثرين، مؤكدة أن بعضهم يعتمد على أسلوب “التحريض بالخوف” (Fearmongering) للترويج لمنتجات تجميلية أو طبية غير معتمدة رسميًا، مستغلين ثقة الجمهور دون عرض المخاطر الحقيقية المرتبطة بها.
برمجة العقول ليست دائمًا سلبية، فهي قد تكون وسيلة بناء إذا استُخدمت لتشكيل وعي إيجابي قائم على القيم الأخلاقية ونشر ثقافة التسامح والتفكير المستنير. فالإعلام المسؤول، والخطاب الديني المتوازن، والتعليم الذي يعزز التفكير النقدي، جميعها أدوات فعالة لبرمجة العقول نحو الخير والمعرفة. أما الخطر الحقيقي فيكمن في البرمجة الخفية والموجَّهة، التي تُمارس بطرق ناعمة وغير مباشرة، فتُوجِّه الناس دون وعيهم، وتخلق رأيًا عامًا هشًّا يسهل التلاعب به.
المطلوب اليوم ليس مقاومة التكنولوجيا، بل امتلاك الوعي في التعامل معها. على كل إنسان أن يسأل نفسه: من أين أستمد معلوماتي؟ من يوجّه ما أراه وأسمعه؟ وما الفلتر الذي تختاره لي الخوارزميات كل مرة أفتح فيها هاتفي؟ فالمناعة الفكرية تبدأ في الأسرة، وتتعمق بالتعليم، وتتأكد بترسيخ مهارات التفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة حتى لا تصبح عقولهم أرضًا خصبة لأي محتوى مضلل أو برمجة خفية.
كما أن على المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية مسؤولية كبرى في توجيه أدوات التأثير الحديثة نحو الوعي والمعرفة، وتقديم محتوى يجمع بين الجاذبية والمضمون، وبين الحرية والمسؤولية، مع تعزيز الشفافية في عمل المنصات الرقمية.
إننا اليوم في معركة غير مرئية عنوانها: من يملك العقل؟
فمن يملك العقول، يملك المستقبل.
وبرمجة العقول في عصر منصات التواصل ليست خطرًا محتملًا، بل واقعًا يتشكل كل لحظة أمام شاشاتنا. ويبقى الوعي، وحده، هو السلاح الذي يصون الإنسان من أن يتحول إلى مجرد رقم في معادلة الخوارزميات، أو تابعٍ لمؤثرٍ لا يعرفه إلا من خلف الشاشة.