في عالمٍ لم تعد تحكمه الخرائط التقليدية، حيث تذوب الحدود بين الدول إلى أصفارٍ وآحاد، تبرز الجريمة السيبرانية العابرة للحدود كشبحٍ يطارد النظام القانوني الدولي، متحديةً المفاهيم الكلاسيكية للسيادة والإقليم والاختصاص تخيل مجرماً يجلس في قبو مظلم بموسكو، يخترق خوادم بنك في القاهرة، ليتحول مدخرات عائلة إلى عملة مشفرة تُحول إلى محفظة رقمية في كاراكاس، كل هذا في غضون دقائق، دون أن يتحرك المجرم من مكانه أو يعبر حدوداً دولية هنا، في هذا الفضاء اللامتناهي، تصطدم العدالة الجنائية بجدارٍ من الأسئلة المحيرة من يملك الحق في ملاحقة هذا المجرم؟ وأي قانون يُطبق؟ وكيف تثبت الجريمة عندما تكون الأدلة رقمية وقابلة للمسح أو التعديل بنقرة واحدة؟
المحكمة الجنائية الدولية، المصممة لمحاكمة أخطر الجرائم التي تثير اهتمام المجتمع الدولي، تجد نفسها في حيرة من أمرها أمام هذه الظاهرة نظامها الأساسي لم يتخيل يوماً جرائم لا دموع فيها ولا جثث، لكنها تدمر الأرواح بطرق أكثر تعقيداً، جرائم يمكنها أن تشل شبكة كهرباء دولة كاملة، أو تستنزف اقتصاداً وطنياً، أو تسرق أسراراً أمنية حساسة. إشكالية الاختصاص هنا هي المعضلة الأكبر، فالمحكمة تختص أساساً بالجرائم التي ترتكب على إقليم دولة طرف أو من قبل مواطن تابع لها، لكن ما هو "الإقليم" في الفضاء السيبراني؟ هل هو موقع الخادم الذي تم اختراقه؟ أم مكان إقامة الضحية؟ أم البلد الذي يستضيف مزود خدمة الإنترنت الذي مرر الهجوم؟ كل احتمال يفتح باباً للنزاع حول السيادة والاختصاص، وغالباً ما ترفض الدول التنازع عن سيادتها لصالح محكمة دولية في قضايا تعتبرها تمس أمنها القومي مباشرة .
ولعل التحدي الأكثر إيلاماً هو تحدي الإثبات، فالأدلة الرقمية هشة بطبيعتها، قابلة للتلفية والتعديل بسهولة فائقة، وغالباً ما تتطلب سلسلة إثبات معقدة لتتبع المصدر الحقيقي للهجوم الذي قد يمر عبر عشرات الخوادم في دول مختلفة، كل منها لها قوانينها الخاصة حول جمع الأدلة الرقمية وحمايتها كيف يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تضمن نزاهة الأدلة الرقمية المقدمة لها؟ ومن يتحمل عبء التكاليف الباهظة للتحقيقات التقنية المعقدة التي تتطلب خبراء عالميين؟ الأهم من ذلك، كيف تثبت النية الجرمية لمخترق قد يكون مجرد مراهق خلف شاشته، أو عميل تابع لدولة تعمدت إرباك الأدلة؟
في مواجهة هذا التحدي الوجودي، تبرز الحاجة إلى عقدٍ اجتماعي دولي جديد، قد يتطلب تعديل نظام روما الأساسي ليشمل الجرائم السيبرانية التي ترقى إلى مستوى تهديد السلم والأمن الدوليين، وكيفية التعامل مع هذه الجرائم كما أن تطوير اتفاقيات دولية لتبادل الأدلة الرقمية بمعايير موحدة يصبح ضرورة ملحة الخيار الآخر الأكثر واقعية هو تعزيز التعاون بين الدول لملء الفراغ القضائي الحالي، حيث تتنازل الدول طواعية عن الاختصاص لصالح المحكمة في حالات معينة، أو تنشئ محاكم متخصصة مشتركة بدون ذلك، سيبقى الفضاء السيبراني بمثابة "البرية الغربية" الجديدة، حيث يفلت المجرمون من العقاب بفضل انعدام الجغرافيا وتقادم القوانين، مما يهدد ليس فقط الأمن القومي للدول، ولكن أسس النظام الدولي القائم على القانون نفسه .