عاجل

في طريق عودته ليلا إلى بيته بعد يوم عمل شاق كالمعتاد، توقف شوقي سند فجأة ليتبين الأمر. "خربت يازول!". اخترقت الكلمتان أذنيه، وميز صوت المتحدث، فقرر أن يستطلع الأمر بنفسه. استدار، وتحرك في اتجاه مصدر الصوت، وهو يتمتم في سره: "استرها يا ستار، يارب يكون خير". إنه عمر فج النور جاره العزيز، وصديقه الجديد. شقيق سوداني يسكن في الطابق الأرضي من عمارته برفقة أسرته في بولاق الدكرور. حياه باسما وصافحه وجلس إلى جواره أمام دكانه المتواضع، أصغر غرف شقته.

في الأغلب الأعم، يفضل الرجال والشبان السودانيون الذكور البقاء خارج البيوت معظم الوقت، وخلال أشهر الصيف بالذات. بالنسبة لهم، البيت للنوم، ولتناول الطعام، فقط، وخصوصا إذا كانوا من أهل الريف. في مصر، يمارسون عاداتهم بحرية، إذا سمحت الظروف وتقبل الناس.

سأله شوقي عن أمور تجارته الصغيرة، والعيال، وحال موظفي البلدية معه؟. طمأنه فج النور بكلمات بسيطة عنها جميعا، ولكنه عاد لترديد نفس الجملة البائسة: "خربت يازول". ماذا حدث لكل هذا الإحباط يا سيدنا؟.

اقترب عيد الفطر، ويشكو هذا السوداني الخمسيني الطيب بمرارة من عجزه عن تفصيل جلباب "على الله" الوطني البسيط، وهو هنا في بولاق الدكرور، لا في القاهرة الجديدة، أو غيرها من ضواحي العاصمة الفخمة. سجلت محنته توقيعها بوضوح على جلبابين من نفس الطراز جاء بهما من بلاده قبل عامين، ويتطلب الأمر الآن كسوة جديدة بمناسبة العيد، له ولشابين من أولاده. قال إن الخياطين المصريين لا يحبون مباشرة مهنتهم كما يقول الكتاب. يفضلون تصليح الملابس بالتضييق، والتوسيع، والتقصير، والرتق أحيانا، بدلا من التفصيل الذي تعلموه منذ زمن. مهام سريعة باهتة تصلح أعمالا للصبية، لا للأسطوات. أما ما يستغرق ثلاث أو أربع ساعات من العمل الفني المتصل فهو خسارة ثقيلة بالنسبة لهم !. "ماذا طلبت؟. على الله. لا إله إلا الله". وتحدث إلى أن دمعت عيناه.       

"كنا أسيادا في بلادنا، نشبع من القليل، ونحمد الله حمد الشاكرين، إلى أن رفع الأشقاء السلاح في وجوه بعضهم بعضا. من يعجز منا عن تدبير غدائه لقلة المال، ينصب فخا لأرنب بري يكفي لإطعام أسرة كاملة. ولكن، كان علي أن أفر بأهلي سريعا من محيط جزيرة توتي في الخرطوم إلى مروي شمالا. بقينا هناك لأيام في حماية جدران مسجد أصبح مهجورا لأسباب لم أتبينها. خرجنا منه لتناول طعام الغداء ذات يوم، فسقطت قذيفة مدفعية سوته بالأرض. حمدت الله على سلامة الولية، والعيال، ووضعتهم في السيارة وانطلقنا شمالا. إلى مصر".

ما لكم يا أهل المحروسة!. الخياط لا يريد أن يعمل بحق. والميكانيكي يتحجج بغياب الصبية. والمتاجر تفتح بعد صلاة الظهر بساعة على الأقل. والشبان لا يرفعون وجوههم عن الهباب الموبايل. والسيدات يجأرن بالشكوى. حرام.

تم نسخ الرابط