في عصر السرعة والمعلومات، لم تعد السياسة حكرا على قاعات البرلمانات ومكاتب صناع القرار، بل انتقلت إلى فضاء أرحب وأوسع؛ فضاء يتيح للجميع التعبير والمشاركة والتأثير ولم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتواصل الشخصي، بل أصبحت سلاحا سياسيا يغير قواعد اللعبة في عالم السياسة الدولية.. واليوم تستخدم هذه المنصات كأدوات للتعبئة الجماهيرية، وتشكيل الرأي العام، والتأثير في الانتخابات، بل وحتى كجزء من الحروب الإعلامية بين الدول لكن يبقى السؤال: هل باتت التكنولوجيا هي القوة الخفية وراء المشهد السياسي العالمي؟
في البداية، لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي منحت المواطنين في مختلف أنحاء العالم مساحة حرة للتعبير عن آرائهم و لعبت دورا رئيسيا في العديد من الأحداث السياسية الكبرى، مثل الربيع العربي، وحملات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وحركات الاحتجاج في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ومن خلال "هاشتاج" بسيط على "تويتر"، أو فيديو ينتشر بسرعة على "فيسبوك"، يمكن للرأي العام أن يتحول إلى قوة ضغط تجبر الحكومات على الاستجابة.
لكن في المقابل، خلقت هذه المنصات حالة من الفوضى السياسية في بعض الأحيان فالأخبار الكاذبة، والحملات المضللة، والجيوش الإلكترونية أصبحت أدوات تستخدم لإشعال الأزمات، والتأثير في نتائج الانتخابات، والتشويش على القرارات السياسية وبدلا من أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للحوار الديمقراطي، أصبحت في بعض الأحيان ساحة حرب نفسية تستغل فيها العواطف والمعلومات المغلوطة.
ولعل أبرز الأمثلة على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة هو الانتخابات ففي الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وجهت أصابع الاتهام إلى بعض القوى الدولية باستخدام "فيسبوك" و"تويتر" لنشر معلومات مضللة بهدف التأثير في نتائج الانتخابات كما أشارت تقارير إلى أن ملايين الحسابات الوهمية والجيوش الإلكترونية ساعدت في تشكيل اتجاهات الناخبين.
إن القدرة على استهداف مجموعات بعينها من الناخبين بناء على اهتماماتهم وسلوكهم الرقمي أعطت لوسائل التواصل الاجتماعي قوة غير مسبوقة حيث لم تعد الحملات الانتخابية تعتمد فقط على الخطابات والندوات، بل أصبحت تعتمد بشكل كبير على الإعلانات المستهدفة والرسائل الموجهة التي تصل إلى المستخدمين في هواتفهم الذكية ولم يعد الصراع السياسي محصورا في ساحات الحروب التقليدية؛ فالحرب اليوم تدور على شاشات الهواتف وأمام أعين الملايين وتستخدم الدول الكبري وسائل التواصل الاجتماعي كجزء من سياساتها الخارجية للتأثير في الرأي العام داخل دول أخرى، وعلى سبيل المثال، شهدنا كيف تم استخدام المنصات الرقمية في نشر الدعاية السياسية، والتأثير على استقرار الدول من خلال إثارة الانقسامات العرقية والسياسية.
إن مفهوم "القوة الناعمة" أصبح أكثر وضوحا مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي وبدلا من اللجوء إلى القوة العسكرية، تلجأ الدول إلى أدوات الحرب النفسية من خلال نشر الشائعات والمعلومات المضللة لزعزعة استقرار خصومها وهذا النوع من الصراع بات يشكل تهديدا حقيقيا على سيادة الدول واستقلالية قراراتها وأمام هذا الواقع، يواجه صناع القرار تحديات كبيرة فالتكنولوجيا تسبق القوانين، ووسائل التواصل الاجتماعي تعمل بسرعة تفوق قدرة الحكومات على الاستجابة فكيف يمكن التحكم في المحتوى دون المساس بحرية التعبير؟ وكيف يمكن التمييز بين النقد المشروع والمعلومات المضللة؟
إن بعض الدول بدأت في سن قوانين لمكافحة الأخبار الكاذبة وتعزيز الشفافية في الإعلانات السياسية، إلا أن هذه الخطوات لم تحسم المعركة بالكامل والمعركة الحقيقية تكمن في وعي المستخدمين أنفسهم، وتعزيز قدرتهم على التحقق من صحة المعلومات قبل تصديقها أو مشاركتها.
وبالرغم من قوة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها المتزايد، لا يمكن القول إنها تتحكم بشكل كامل في قرارات الدول لأن السياسة في النهاية هي عملية معقدة تتأثر بعوامل اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية، وليس فقط بالرأي العام على المنصات الرقمية ، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أن هذه الوسائل أصبحت عاملا حاسما في توجيه السياسات وصناع القرار وأصبحوا أكثر اهتماما بمراقبة نبض الشارع الرقمي، وتغيير مواقفهم بناءا على ردود الفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي كما أن الضغط الشعبي الذي يمارس من خلال هذه المنصات قد يدفع الحكومات إلى اتخاذ قرارات لم تكن في الحسبان.
الخلاصه... في عالم أصبح فيه المعلومة تنتقل بسرعة الضوء، وتحظى كل تغريدة بقدرة على التأثير، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي كواحدة من أقوى أدوات السياسة الحديثة فهي سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون قوة دافعة أو أداة لزعزعة الاستقرار وبالتالي فإن السيطرة على هذه الأدوات لم تعد خيارا، بل ضرورة لحماية سيادة الدول وتحقيق الاستقرار، وفي الوقت نفسه، يبقى وعي الأفراد وقدرتهم على التمييز بين الحقيقة والتضليل هو الحصن الأخير أمام الفوضى الرقمية.