لم يكن النيل يومًا مجرد نهر عابر للحدود، بل شريان حياة يمتد منذ آلاف السنين، يحمل في مجراه ذاكرة الحضارات وأحلام الشعوب. غير أنّ ما أقدمت عليه إثيوبيا في إدارة سد النهضة، قد حوّل هذا الشريان إلى مصدر قلق وجودي، لا لمصر وحدها، وإنما للسودان أيضًا، الذي وجد نفسه فجأة في مواجهة فيضان كاسح هدد خمسًا من ولاياته الكبرى، وأجبر وزارة دفاعه على رفع تحذير أحمر لسكان الشريط النهري، حفاظًا على الأرواح والممتلكات.
إنّ الخطر لم يكن نتيجة لغضب الطبيعة وحدها، بل ثمرة مباشرة لسياسات أحادية الجانب مارستها أديس أبابا في ملء وتشغيل بحيرة السد، متجاهلة أبسط قواعد التنسيق مع دولتي الممر والمصب، السودان ومصر. والنتيجة كانت غرق آلاف الأفدنة المزروعة، وتشريد مئات الأسر، وتهديد الأمن الغذائي في بلد يئن أصلًا تحت وطأة أزماته الداخلية.
لقد حذّرت القاهرة مرارًا من خطورة الإجراءات الأحادية، ليس فقط على حصتها التاريخية من المياه، بل أيضًا على سلامة السودان نفسه. فالملء دون جدول مُعلن، والتشغيل دون قواعد واضحة، يعني أن أي فيضان موسمي قد يتحول إلى كارثة ممتدة، تعصف بالقرى والمزارع والطرق والجسور، وتزرع الخوف في قلوب مَن يسكنون ضفاف النهر.
والأدهى أن إثيوبيا لم تلتزم باتفاق قانوني ملزم، رغم النداءات المتكررة. فهي تُشغّل بعض توربينات السد وتخزن المياه بكميات ضخمة، دون أن تترك سعة كافية لامتصاص الأمطار الغزيرة أو تصريف الفائض بطريقة آمنة. هنا يتجلى سوء الإدارة لا في التقنية وحدها، بل في الرؤية السياسية التي ترى في المياه ورقة ضغط أكثر من كونها حقًّا مشتركًا لا غنى عنه للحياة.
النتائج المترتبة على هذا النهج لا تقف عند حدود السودان. فالغرق الذي يهدد المزارعين في ولايات نهر النيل والنيل الأبيض والخرطوم، وما يترتب عليه من خسائر في المحاصيل والحياة البشرية، سيقود إلى أزمة غذاء ممتدة، ونزوح داخلي واسع، وأعباء إنسانية تضاف إلى مشهد مضطرب أصلًا. أما بيئيًا، فإن المياه الراكدة ستجلب الأمراض وتلوث مصادر الشرب وتؤدي إلى تملح الأراضي بعد الجفاف.
من الناحية الفنية، ما كان مطلوبًا واضح وبسيط ،تشغيل مرن يسمح بتصريف مدروس في مواسم الأمطار، صيانة للتوربينات والبوابات، استخدام نماذج هيدرولوجية متقدمة للتنبؤ بالمناخ، والأهم، التنسيق الشفاف مع دول الجوار. لكن غياب ذلك كله جعل السد أقرب إلى “قنبلة مائية موقوتة”قد تنفجر آثارها في أي موسم مطير.
إن أزمة سد النهضة لم تعد قضية تفاوض عابرة، بل مسألة أمن قومي وإقليمي. المطلوب اليوم هو تحرك جماعي، مصري–سوداني، مدعوم دوليًا، لإلزام إثيوبيا باتفاق قانوني شامل يضمن حقوق الجميع ويمنع الكارثة المقبلة. فالمياه التي كان يُفترض أن تكون جسراً للتنمية المشتركة، لا يجوز أن تتحول إلى سلاح يُشهر في وجه الجوار.
التاريخ علمنا أن الأنهار توحد أكثر مما تُفرق، وأن حضارات ضفافها لا تنهض إلا حين تدرك أن الماء لا يعرف الحدود الضيقة ولا يعترف بسياسة الأمر الواقع. ولعلّ ما يحدث اليوم يكون جرس إنذار أخيرًا، قبل أن تغرق أحلام التنمية في وحل التعنت وسوء الإدارة، ويجد السودان نفسه ضحية لفيضان لم يكن قدَره بل كان قرارًا بشريًا خاطئًا.