عاجل

إذا نظرنا إلى الطريقة التي يصور بها محمد سامي المناطق الشعبية في أعماله ، سنجد أنها تتقاطع بشكل كبير مع الطريقة التي رسم بها المستشرقون صورة الشرق في كتاباتهم وأعمالهم الفنية خلال القرون الماضية ، في كلتا الحالتين نحن أمام صورة ليست انعكاساً حقيقياً للواقع ، بل انعكاس لتصورات واحتياجات ذهنية خاصة بمن يرسمها .

الصورة التي صاغها المستشرقون عن الشرق لم تكن مجرد تسجيل موضوعي لحياة شعوبه ، بل كانت بمثابة بناء خيالي ينسج الشرق في صورة " ساحرة " مليئة بالإثارة والغموض ، ولكنها في جوهرها تضعه في موقع المتأخر والمختلف ، المنفصل عن ركب الحضارة الغربية المتقدمة .

كان المستشرق يخلق عالماً شرقياً يناسب تصوره هو ، لا الواقع ، عالماً يبدو وكأنه مليء بالجمال والفتنة والغرائبية ، لكنه في الحقيقة مجرد إعادة صياغة للآخر وفقاً لرغبات وأوهام الذات الغربية ، فالغرب في هذه المعادلة هو معيار التطور ، والشرق هو الآخر المختلف ، الذي لا يُمكن أن يُفهم إلا من خلال عدسة الغرب نفسه .

هذه الصورة ليست مجرد احتفاء بالشرق ، بل هي " احتفاء فوقي " يجعل من الشرق كياناً جذاباً لكنه ناقص ، ساحراً لكنه متأخر ، ممتلئا بالحياة لكنه يفتقر إلى المنطق الغربي المنظم .

خيالات محمد سامي .. الحارة الشعبية كما يراها ابن الطبقة الثرية 

محمد سامي ابن الطبقة العليا وخريج الجامعة الأمريكية ، يقترب من المناطق الشعبية بنفس الطريقة ، فسامي لم يعش في حارة شعبية ، لم يخض معارك الشوارع ، لم يضطر إلى التفاوض على وجوده وسط بيئة قاسية ، لكنه يحمل تصورات رومانسية عن هذه العوالم ، يرى فيها " الجدعنة " التي يفتقدها في محيطه ، والوضوح الذي يعاني من غيابه في عالمه المليء بالشكليات والتوازنات المدروسة ، لكنه لا يرى هذه الحارة بتفاصيلها الحقيقية ، بل يعيد تشكيلها وفقا لرغباته ، تماما كما فعل المستشرقون مع الشرق .

أركان الصورة الشعبية في أعمال محمد سامي :

البطل .. الصعود من القاع دون تنازلات

في عالم محمد سامي ، البطل الشعبي دائماً شخصية استثنائية ، يتمتع بحب الجميع وثقتهم ، لديه علاقات قوية بكل أفراد الحارة ، من صبي القهوة إلى الجزار إلى صاحب السوبر ماركت ، وكأن الروابط في هذه البيئات ليست معقدة ولا تحكمها المصالح .

هذا البطل صاعد من القاع ، لكنه لم يساوم أبدا، لم يتنازل عن مبادئه، لم يمر بلحظة ضعف حقيقية ، نجاحه مثالي ، انتصاره نظيف ، وكأن الصعود من الطبقات الدنيا لا يتطلب أحياناً أنصاف الحلول ، أو ألاعيب البقاء ، أو حتى بعض الانحناء أمام العواصف ، وهذه رؤية سطحية لا تعكس واقع من نشأوا في البيئات الصعبة ، حيث الصعود غالباً مليء بالتنازلات القاسية ، حيث البقاء نفسه يتطلب حيلاً لا تتناسب مع المثاليات السينمائية .

النساء .. حضور مشروط بالجاذبية

في هذا العالم المتخيل ، النساء لسن سوى انعكاس لرغبات الرجل الشعبي المثالي الذي يقدمه محمد سامي ، هن دائما جميلات ، يرتدين العبايات الضيقة ، يتحركن بطريقة مغرية ، أصواتهن ناعمة ولهجتهن دائماً محملة بالإغراء ، لا توجد نساء عاديات ، لا توجد شخصيات نسائية تتجاوز فكرة الجاذبية البصرية ، لا توجد امرأة منهكة من العمل ، أو أم متعبة تحمل فوق كتفيها مسؤوليات الحياة ، أو فتاة عادية تعيش يومها دون أن تكون موضوعا للرغبة المستمرة .

هنا المرأة ليست شخصية بقدر ما هي عنصر بصري وجمالي ، أداة لتعزيز صورة الرجل البطل ، تماما كما كان " الحريم " في اللوحات الاستشراقية مجرد امتداد لخيالات الرجل الغربي عن الشرق المغلق والمثير .

الصراع .. الحياة كملحمة مستمرة

في أعماله لا يوجد صراع بسيط أو حياة يومية عادية ، كل شيء يجب أن يكون ضخماً ، درامياً ، مأساوياً ، لا توجد مشاكل صغيرة ، لا أزمات مالية عادية ، لا علاقات تتآكل ببطء ، بل هناك دائماً أزمة وجودية كبرى ، مشكلة ضخمة تهدد البطل وتدفعه إلى المواجهة الحاسمة .

هذه الرؤية نابعة من ذهنية أبناء الطبقات المريحة ، الذين لا يعيشون الضغوط اليومية التي يعاني منها أبناء الطبقات الأقل حظا ، لكنهم يبحثون عن التحدي في شكل قصة ضخمة تُشعرهم بالمعاناة ، حتى لو كانت معاناة خيالية لا تمت للواقع بصلة .

البطل الشعبي .. صوت عال ووضوح زائف

في هذا العالم البطل الشعبي واضح تماما ، لا يعرف المجاملات ، صوته عالي ، يواجه الجميع دون خوف ، لا ينافق ، لا يهادن ، يقول كل شيء في وجه الآخرين ، هذه ليست صورة حقيقية ، بل هي انعكاس لتصورات الفئات الأعلى عن المجتمع الأدنى ، كأنهم يتخيلون أن الناس البسطاء أكثر صدقاً ، لا يخفون مشاعرهم ، لا يتلونون كما يفعل أبناء الطبقات المخملية .

الحقيقة أن كل البيئات تحكمها المصالح والتوازنات والمجاملات الاجتماعية ، وأن القدرة على التفاوض والتلون أحيانا ليست حكراً على طبقة دون أخرى ، بل هي جزء من الحياة في أي مجتمع .

محمد سامي والمستشرقون .. الحارة الشعبية كشرق جديد

كما صنع المستشرقون شرقهم الخاص ، صنع محمد سامي حارته الشعبية الخاصة ، حارة لا تعيش فيها الشخصيات بقدر ما تتحول إلى رموز وأيقونات ، إلى أبطال نموذجيين وأعداء واضحين ، إلى نساء جميلات وبشر بسطاء لا يحملون التعقيد الحقيقي للحياة .

الحارة هنا ليست مكاناً ، بل فكرة متخيلة ، عالم مليء بالمشاعر العميقة ، بالحب الواضح ، بالشر الجلي ، بالتناقضات الحادة ، وكأن البساطة تعني أن تكون كل المشاعر صاخبة ، وكل العلاقات واضحة ، وكل المواقف مباشرة .

محمد سامي لا يقدم صورة واقعية عن الحياة الشعبية ، بل يقدم صورة تعكس رغبات وتصورات طبقته عنها ، كأنها مساحة للوضوح العاطفي والاجتماعي الذي يفتقده في حياته المترفة .

الحارة في أعماله ليست مكانا حقيقيا ، بل هي " الشرق " الجديد ، المكان الغامض الذي يثير شغف القادم من الخارج ، يدهشه بجاذبيته ، لكنه في النهاية لا يفهمه حقا ، وبدلا من اعتبار أعماله انعكاسا للواقع ، ربما يكون من الأجدى رؤيتها كنموذج لدراسة كيف ترى الفئات العليا الطبقات الشعبية ، ليس كما هي ، بل كما يريدون أن يتخيلوها .

تم نسخ الرابط