في إحدى محاضراته الماتعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، استنكر أ. د محمد بلتاجي حسن، رحمه الله، وكان يشغل وقتها درجة عميد الكلية، زيّ إحدي الطالبات الصارخ، الذي يكشفُ من جسمها أكثرَ مما يستر، ويصف تضاريس البدن، ومعالم الجسم بصورة، تلفت نظر كلِّ من يراها، فيطُلق - معذورا أو مقهورا - لنظره العنان ينهش من جسدها، الذي أضحي كلأ مباحا، وأرضا مشاعا لا مالك لها .
وباعتبار د. بلتاجي أستاذًا للشريعة، يُشار إليه بالبنان، بيد أنَّه تربى علي عين شيخه العلَّامة محمد أبو زهرة، وعلي حسب الله، وغيرهما، وسار في طريقهم، يُكمل ما بدأوه، ويُرسِّخ دعائم علم الشريعة بمنهج يقوم علي الوسطية، ويحتفي بالدليل، انطلق يُبين لنا فرضية الحجاب، مُستشهدا بالدليل من القرآن والسنة، وأحوال سلف الأمة، وأشار فيما أشار أيضا إلى أنَّ عفاف المرأة، هو سرُّ جمالها، وليس العري والتكشف، كما يظنُّ البعض ممن اعتقدن خطأ أنَّ حرصَهن علي الفتنة والإثارة، هو دليل أنوثتهن الدامغ، وضمانة وصولهن لبيت(العَدَل)، وهذا ما يُكذِّبه الواقع، فكلُّ شاب - إذا عزم الزواج - يرفض أن يضم لعِصمته فتاة شاركه فيها غيره بنظر أو كلام، أو أكثر أو أقل .
الغريب في القصة أنَّ مُبرر الطالبة، وقتما لامَها د. بلتاجي، كان أقبحَ من الذنب، فقالت إنَّها من وسط راق، ومن مُقتضيات الرقي بزعمها التعطر والملابس المكشوفة، والخضوع بالقول بدعوى (الإتيكيت)، حتى وإن أثارت الغرائز، وهيَّجت المشاعر !
بحثَ العميدُ وتحرى، بعدما بلغ السيل الزُّبى، فعلم من سجلات الكليّة أنَّ الفتاة، تقطن في حارة بحي شعبي، ولم تكن أبدا بنت سرايات وقصور، أو سليلة باشاوات وبرنسيسات كما ادَّعت .
استدعى العميد الفتاة، وبيّن لها أنّ عراقة الأصل، ليست في العري والابتذال، ولكن في العفة والحجاب، واستشهد على قوله ـ رحمه الله ـ بحال كريمة وزير مفوض، كانت طالبة بالكلية آنذاك، وتأتي إلى الكلية وتغادرها برفقة سائق خاص بها، ورغما عن ذلك، تحرص كلَّ الحرص على الحجاب .
هذه الواقعة التي مضت عليها سنوات، تذكَّرتُها مؤخرا أمام عيني في لقاء جمعني بمثقفة، وظَّفت طاقتها، واستجمعت قواها للظهور في حفل ثقافي بثوب فاضح، ظنّت أنَّه يزيدها ألقا وبهاء، فهوى بها إلى دركات الاستخفاف والاستهجان من البعض والشفقة من آخرين .
هنالك تذكرتُ قصيدةَ عائشة التيمورية، وآمنتُ بأنّها كانت علي حق عندما قالت:
بيدِ العفافِ أَصونُ عزَّ حجابي
وِبِعِصمَتي أَسمو عَلى أَترابــي
وَبِفِكـــــرَة وَقادَة وَقَريحــــــة
نَقادَة قَـــــد كَمَـــــــلَت آدابــي