في قاعة مكتظة بقادة العالم داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك، علت كلمات عن فلسطين بدت مختلفة هذه المرة، لم تكن مجرد إشارات بروتوكولية عابرة، بل نبرة جديدة أكثر وضوحا وإلحاحا، تعكس إدراكا بأن تجاهل هذا الملف لم يعد ممكنا وفي الوقت ذاته، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، كان أطفال غزة يبحثون عن مأوى وسط ركام منازلهم، في مشهد يلخص المسافة القصيرة بين الخطاب الأممي والواقع الميداني، مهما بدت المسافات الجغرافية شاسعة.
على هامش اجتماعات الجمعية العامة الثمانين للأمم المتحدة، انعقدت قمة متعددة الأطراف جمعت الولايات المتحدة بعدد من القادة العرب والإسلاميين والتي أعادت التأكيد بوضوح على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ورفض الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة قد يبدو ذلك مألوفا في لغة البيانات الدبلوماسية، لكن اللافت أن العبارة هذه المرة لم تكن جملة عابرة، بل جاءت محمولة بزخم سياسي وإعلامي يعكس تحولا في المزاج الدولي.
التحول لم يأت من فراغ، غزة، بما تحمله من صور مؤلمة وصرخات مكتومة، فرضت نفسها على الضمير العالمي، الشاشات امتلأت بصور أحياء كاملة تحولت إلى أنقاض، وبمآس إنسانية لم يعد ممكنا تجاهلها، تقارير المنظمات الدولية عززت هذا الحضور، إذ تحدثت عن انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب، لتشكل ضغطا متزايدا على الحكومات الغربية التي طالما تمسكت بسياسات الصمت أو التبرير.
لكن القضية لم تعد إنسانية فقط، بل تحولت أيضا إلى ورقة في لعبة التوازنات الكبرى، صعود قوى جديدة مثل الصين والهند، واتساع نفوذ تكتلات كالبريكس، وعودة روسيا إلى المشهد العالمي، جعلت من الشرق الأوسط ميدانا لاختبار النفوذ، في هذا السياق، برزت فلسطين كرمز سياسي تتقاطع عنده حسابات كبرى، سواء في إطار التنافس بين الشرق والغرب، أو في رغبة الدول النامية في التعبير عن رفضها لهيمنة الصوت الواحد في النظام الدولي.
وسط هذا المشهد، لعبت مصر دورا محوريا، ولم تكتف القاهرة بإرسال المساعدات الإنسانية أو بفتح معبر رفح لتخفيف المعاناة عن أهل غزة، بل ذهبت أبعد من ذلك عبر تحريك الملف في المحافل الدولية بخبرتها التاريخية في الوساطة، و بعلاقاتها المتوازنة مع واشنطن وموسكو وبكين، استطاعت مصر أن تتحول إلى جسر حقيقي يربط بين الواقع الميداني في غزة وبين دوائر صنع القرار في نيويورك ومن هنا برزت عبارة “من نيويورك إلى غزة” ليس كشعار بل كمعنى ملموس للربط بين السياسة والإنسان.
ازدواجية المعايير الدولية ظهرت بوضوح في النقاشات الأممية ففي الوقت الذي يرفع فيه الغرب شعارات الدفاع عن العدالة وحق تقرير المصير في أوكرانيا أو مناطق أخرى، يجد نفسه عاجزا عن تطبيق المبادئ ذاتها على الحالة الفلسطينية، و هذه المفارقة لم تعد تمر مرور الكرام، بل أصبحت مادة لنقاشات أكاديمية وإعلامية، وأثارت وعيا عالميا جديدا يتبنى القضية من منظور إنساني وأخلاقي، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.
ومع ذلك، فإن إعادة مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الدولي لا تعني بالضرورة أن الحل بات وشيكا ولكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الزخم إلى خطوات عملية، هل تستطيع القوى الكبرى أن تمارس ضغطا حقيقيا على إسرائيل لوقف الانتهاكات وبدء مفاوضات جادة؟ أم أن الأمر سيتحول إلى مجرد موجة تعاطف ظرفية سرعان ما تنطفئ؟ الأسئلة مفتوحة، والإجابات مرتبطة بقدرة الأطراف الفاعلة على استثمار هذه اللحظة التاريخية.
في غزة، حيث يعلو صوت الانفجارات على أي خطاب آخر، لا يهم السكان سوى أن تتحول بيانات نيويورك إلى أفعال ملموسة، الناس هناك بحاجة إلى ما يتجاوز التضامن اللفظي؛ يريدون حماية من القصف، ودواء للمرضى، ومستقبلا لأطفالهم، التحدي الحقيقي إذن هو في الانتقال من الكلمات إلى السياسات، من الخطابات إلى القرارات.
المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن، تبدو في موقف حرج، قراراته السابقة المتعلقة بفلسطين ما زالت حبرا على ورق، معطلة بالفيتو الأمريكي، هذا العجز المؤسسي يضع مصداقية النظام الدولي على المحك وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن غزة لن تكون فقط مأساة إنسانية، بل أيضا شهادة على فشل العالم في إنصاف شعب ناضل لعقود من أجل حقه في الحرية.
في المقابل، تبقى مسؤولية الدول الإقليمية أساسية، مصر والأردن والسعودية وقطر أمام اختبار مضاعف: الحفاظ على الزخم السياسي الذي تحقق في نيويورك، وتحويله إلى مسار تفاوضي يضمن حقوق الفلسطينيين، التنسيق العربي، واستثمار العلاقات مع القوى الكبرى، يمثلان مدخلا ضروريا للخروج من دائرة البيانات إلى دائرة الأفعال.
في النهاية، فإن رحلة “من نيويورك إلى غزة” ليست فقط جغرافية، بل رمزية أيضا، هي رحلة بين خطاب عالمي بدأ يستعيد الوعي بعدالة القضية الفلسطينية، وبين واقع ميداني يختبر يوميا صدقية هذا الخطاب، والعالم اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يبرهن أنه قادر على ترجمة شعاراته إلى فعل، أو أن يظل أسير إدارة الأزمات بما يفاقم المعاناة ويهدد الاستقرار.
القضية الفلسطينية، في جوهرها، لم تعد مجرد ملف سياسي يخص الشرق الأوسط، بل معيارا حقيقيا لمصداقية النظام الدولي وقدرته على تحقيق العدالة. وما لم يتحقق تقدم ملموس، ستبقى غزة شاهدا حيا على إخفاق العالم في إنصاف شعب يطالب فقط بحقه في الحياة والدولة المستقلة.