عاجل

تعرّفتُ عليه في إحدى المواصلات العامة، وجدتُ فيه جدية، عبَّر عنها حديثُه المُتزن، الذي جاء مشفوعا بنصٍ قرآني أو حديث نبوي أو أثر لأحد السلف، يؤكد كلامه ويدعم موقفه، فقلتُ فرِحا: وجدتُه، ذلك الصديق الذي أخذتُ أفتش عنه سنوات عديدة في دنيا الناس، التي كثُر فيها الغش والخداع، ولبس فيها البعضُ أقنعة الطُهر والبراءة؛ ليخفوا حقيقة أنفسهم، التي تتضاءل أمامها حيلُ الثعالب، وفتك الأفاعي .
توطدت بيننا العلاقة، التي تقمص فيها ذلك الصديق دور الوفاء، فأسلمتُ له القياد، وصرت مُنتصحا بأمره لا أرى في الدنيا غيره، ولا أسمع صوتا غير صوته .
أعطيتُه من مالي ووقتي بغير حساب وبلا ضامن، ولمّا فتحت له الدنيا أبوابها، سدّ أمامي أبواب التواصل به .
هي تجربةٌ حقيقية، تُكذّب وجود الخِلّ الوفي، وتؤكد أنّه صار من رابع المستحيلات، وأن العثور عليه أمرٌ صعب، يتطلب الكثير من الجهد .
ومنعا لسوء الفهم، فإنني لا أنفي وجود الصداقة الصادقة، لكنني أحذّر من الانخداع بالمظاهر، التي يُتقنُها المحترفون من أصحاب الأغراض والمصالح، والذين هم في الحقيقة أشرس من السباع الضارية، وأفتك من الذئاب العادية .
والصداقةُ ـ عزيزي القارئ ـ مأخوذةٌ من الصدق، فصديقُك من صدَقَك لا من صدَّقك .
أي أنَّ الصديق الحقيقي، هو من كان صادقا معك فيما يقول، فلا يُشيد لك بليلٍ قصورا من الوهم، ويتنفس الصبح، فتراها أكواخا من قش، هو من يقول لك الحقَ ولو كان مُرّا .
لذا فالحكمة تقتضي، أن تتسم علاقة المرء بأخيه بالوسطية، فيجب ألا يعتريها إسرافٌ في مدح أو ذم، حب أو كره؛ لهذا ورد في الأثر : (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضَك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما ) .
والدعوة للوسطية في الحب والكره، مبعثُها أنّ القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يُقلّبها كيف يشاء، فربما صار الصديقُ عدوا والعدو صديقا .
وقد كان أبو بكر نموذجا للصداقة المُخلصة، التي خلت من الغرض، وبرئت من المصلحة؛ إذ كانت غايتُه العظمي رضا الله عز وجل، ورضا صديقه محمد صلي الله عليه وسلم؛ لهذا لقَّبه رسول الله بـ(الصدِّيق)، الذي سيظل مفخرة، ونيشانا له إلى أن تقوم الساعة؛ لأنّ من ألبسه هذا النوط، ومنحه ذلك الوسام، هو من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحي.
وإذا كان الشاعر، قد قال لك منبّها: 
ما أكثر الأصحاب حين نعدُّهم /
لكنهم عند النائبــــات قليــــــل. 
فإنّ الأمر، يتطلب منّا التحري والتفتيش المتوالي عن الصديق المُخلص، الذي تسلم صداقتُه بأخيه من النفعية والمصلحة، ومتي وجده المرء لابد أن يعض عليه بالنواجذ، ولا يقف له عند كلّ صغيرة وكبيرة؛ لأنّه لا يوجد من سلم من كلّ العيوب والنقائص، بل يكفيك من صديقك أن ترجحَ كِفة محاسنه عن كفة عيوبه، أمّا أن تنشدَ فيه ملَكا مطهرا خاليا من كلّ عيب، فهذا هو المحال، وردد دائما قول القائل: وكفى بالمرء نُبلا أن تُعد معايبُه.
ومقتضى الكلام : أن نبحث عن ذلك الصديق الوفي، وألا نُسرف في حبه أو بغضه، ونفرّ من الصديق (المكيافيلي) كما نفرُّ من الأسد .

تم نسخ الرابط