في الحادي والعشرين من سبتمبر من كل عام، يرفع العالم شعاره السنوي: "اليوم العالمي للسلام". يوم أرادته الأمم المتحدة مناسبة للتذكير بقيمة السلم وأهميته في حياة الشعوب، وفرصة للتأكيد على أن الحروب لم ولن تكون طريقًا لحل الأزمات.
لكن، ماذا يعني هذا اليوم في ظل واقعٍ دموي يعيشه العالم، وفي وقت تتساقط فيه الأرواح تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي على غزة، فيما يقف المجتمع الدولي متفرجًا، صامتًا، بل ومتواطئًا أحيانًا؟
الحصيلة الرسمية تشير إلى أرقام صادمة أعلنت عنها وزارة الصحة في غزة، كما تنقلها تقارير الأمم المتحدة، تفيد بأن أكثر من 65 ألف شخصٍ قُتلوا منذ 7 أكتوبر 2023، مع عشرات الآلاف من الجرحى، وملايين النازحين داخل شريط غزة. وتشير تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) إلى أن نحو 90% من سكان غزة البالغ عددهم حوالي 2.1 مليون نسمة نزحوا عن منازلهم، فيما لحقت أضرار بالغة بغالبية المرافق الحيوية، من مستشفيات ومدارس وبنى تحتية أساسية.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة؛ إنها وجوه وأسماء وأطفال فقدوا مستقبلهم، وأمهات ترملن في لحظة، وأسر تفرقت تحت الركام. تعرض صور الجثث، وعلب الدواء الفارغة، والبيوت المهدمة على شاشات العالم يوميًا، ومع ذلك تكتفي كثير من الحكومات ببيانات أدبية أو تصريحات دبلوماسية باهتة لا توقف النار ولا تصلح ما أفسدته القنابل.
من المؤلم أن يتغنى العالم بالسلام في المؤتمرات الدولية، بينما ترتكب في غزة أبشع الجرائم الإنسانية. هذه المشاهد لم تقع في الخفاء، بل نقلت صورها على الهواء مباشرة، وشاهدها العالم كله. ومع ذلك، لم نجد من المجتمع الدولي إلا عبارات القلق البالغ والدعوة إلى التهدئة، في وقت كان فيه أطفال غزة يُنتشلون من تحت الأنقاض. أليس من التناقض أن نحيي يومًا عالميًا للسلام فيما تستباح أرواح الأبرياء بلا رادع ولا محاسبة؟
هذا الصمت الدولي المريب يكشف ازدواجية المعايير التي باتت سمة السياسة العالمية. فما أن تقع حرب في بقعة ما من العالم، إلا وتتحرك القوى الكبرى بسرعة، تفرض عقوبات، وتدعو لمحاسبة المسؤولين، وتستنفر مؤسساتها الإعلامية والدبلوماسية. أما حين يتعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في فلسطين، فإننا نرى تبريرات ومواربات، بل وتواطؤًا سياسيًا ودبلوماسيًا يمد الاحتلال بمزيد من الغطاء ليستمر في انتهاكاته.
كيف يمكن أن نأخذ اليوم العالمي للسلام على محمل الجد، بينما تُنتهك أبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني أمام أعين الجميع؟ أليس من التناقض الصارخ أن تدعو الأمم المتحدة إلى وقف الحروب والصراعات، بينما عجزت عن إصدار قرار ملزم واحد يوقف آلة الحرب الإسرائيلية التي تحصد أرواح الأبرياء يوميًا؟
إن الحديث عن السلام يصبح شعارًا أجوف إذا لم يقترن بالعدالة. فلا يمكن بناء سلام حقيقي فوق جثث الأطفال وتحت أنقاض البيوت المهدمة. السلام لا يتحقق إلا برفع الظلم، وإنهاء الاحتلال، ومحاسبة المجرمين، وتحقيق الكرامة الإنسانية للشعوب. وما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل هو امتحان أخلاقي للبشرية كلها إما أن تنتصر لمبادئها المعلنة، أو تسقط في هاوية النفاق السياسي والإنساني.
اليوم العالمي للسلام ينبغي أن يكون مناسبة لإطلاق دعوة صريحة آن الأوان للعالم أن يتوقف عن دفن رأسه في الرمال. فسلام بلا عدالة هو استسلام، وسلام بلا كرامة هو وهم، وسلام يتجاهل فلسطين وغزة ليس إلا سلامًا زائفًا يخدم القوي ويترك الضعيف فريسة للقهر والدمار.
إن غزة اليوم ليست مجرد قضية فلسطينية، بل هي مرآة كاشفة تكشف عجز النظام الدولي وازدواجية معاييره. والسكوت عن جرائم الاحتلال ليس حيادًا، بل هو مشاركة ضمنية في الجريمة. وإذا كان العالم جادًا في حديثه عن السلام، فإن البداية تكون من هناك، من غزة، من فلسطين، حيث الجرح الأعمق في ضمير الإنسانية.
فالسلام الذي يستحق أن يحتفى به في ٢١ سبتمبر، ليس ذاك المكتوب في الشعارات، بل السلام الذي يعيد الحقوق لأصحابها، ويوقف نزيف الدم، ويمنع الاحتلال من العبث بحياة الملايين. هو السلام الذي يضمن العدالة، ويؤسس للتعايش على قاعدة المساواة، لا على أنقاض المذابح ومقابر الأبرياء.