بعد أن هدأ الغبار، ووافق مجلس النواب على قانون تنظيم المسؤولية الطبية وسلامة المريض، بعد سلسلة من المعارك النقاشية في مجلس الشيوخ، ثم لجنة الصحة في مجلس النواب، ثم في الجلسة العامة لمجلس النواب، يجلس فرسان الأطباء الذين خاضوا المعركة -بعقل وحكمة- يتحسسون أجسادهم، ويضمدون جراحهم، ويحتفلون بنصرهم في قانون مفصلي كان من الممكن أن يضع نقطة النهاية لممارسة مهنة الطب في مصر إذا تمت الموافقة عليه في نسخته الأولى المجحفة التي اقترحتها الحكومة، وكان من الممكن أن يدفع هذا القانون -لو أجيز حينذاك- باقي الأطباء إلى الهجرة أو اعتزال المهنة، لنصل يومًا إلى دولة بلا أطباء كما كتبت يومًا. ورغم بعدي فإنني أبيت على نفسي أن أقف متحجرًا في مكاني لمشاهدة نزول المقصلة على رقاب الآلاف من زملائنا الأطباء، وخاصة الشباب منهم، الذين وهبوا عمرهم لهذه المهنة السامية، فكتبت عشرات المقالات، وتحدثت مع كثير من المسؤولين ونواب الشعب، ونزلت إلى القاهرة للمشاركة مع مجلس النقابة في محاولته المستميتة للوصول إلى قانون عادل وحضاري يحمي المريض والطبيب، ويواكب ما يطبق في الغرب، بل يفوقه. والآن وقد تم الانتهاء من القانون، أدعوكم بهدوء إلى مناقشة الماضي، والممكن، والمستحيل:
الماضي:
حين نذكر الماضي، يجب أن نجيب عن السؤال المهم: هل كنا نحتاج إلى هذا القانون؟ مع الوضع في الحسبان أنه كان من السهولة أن يرفض الجميع مشروع القانون، كما رُفِضَ كثير من قبله، أو تسحبه الحكومة ليبقي "الوضع كما هو عليه"، وكان هناك من يدفع في هذا الإتجاه! وللتذكرة، كانت هذه حالنا قبل القانون:
١- كان المريض -أو أحد من أهله- يتقدم بشكوى للنيابة عند حدوث الخطأ الطبي، فيُستدعى الطبيب للتحقيق، وربما يُحبَس احتياطيًّا حتى انتهاء التحقيق حسب ما ترى النيابة!
٢- لم يكن الخطأ الطبي مُعرفًا، وكان التفسير المطاط له متروكًا للمحكمة و"شطارة" المحامي الذي بتلحين لغته وأدلته قد يُحْكِم الحبل على رقبة الطبيب، الذي قد يُحبس أو يُغرَّم، وفوق ذلك يدفع عادة الثمن الغالي من سمعته والتشهير به طوال فترة التقاضي.
٣- كان من الممكن الاعتداء على الطبيب في محل عمله وتدمير منشأته، والقصص -كما تعرفونها- لا تعد.
٤- كان من الصعب أخذ حق المريض أو تعويضه، وكذلك استرداد حق الطبيب أو إنصافه، فلا يوجد قانون يُرجع إليه في المسؤولية الطبية.
٥- كان تقدير الخطأ من خلال الطب الشرعي، دون أخذ رأي لجنة طبية في نفس تخصص الطبيب.
٦- كانت الغرامات جزافية التقدير حسب رأي القاضي، وتتأثر بلحن قول المحامين، وحجم الخطأ.
لذا كان من الضروري وجود قانون واضح وصريح يحمي الطرفين، ويحدد العلاقة بينهما عند حدوث الخطأ الطبي.
وكما نعرف، جرت محاولات كثيرة خلال العقود الماضية للوصول إلى قانون يماثل دول المنطقة والغرب، ولكنها باءت جميعًا بالفشل، ليبقى "الوضع كما ما هو عليه"!
الممكن:
جاءت الحكومة بمشروع قانون مجحف يعاقب الأطباء بالحبس والغرامات الباهظة، مغلفًا ببعض المزايا، مثل حماية الأطباء من الاعتداء، وعدم المحاسبة في حالات مضاعفات المرض أو الجراحة ما دامت معروفة، وبالطبع رفضه فورًا غالبية الأطباء، وهنا بيت القصيد، كيف يمكن أن نعدل هذا المشروع ليكون مقبولًا للجميع، ونستفيد من مزاياه؟ هل نرفضه ويعود الوضع كما هو عليه؟ أم نثور ونهدد ونعترض؟ وهنا نرى الفرق بين مشروع القانون وما تم تغييره بعد طول عناء، وتحت ضغط كبير من فرسان الأطباء الحكماء الذين أداروا المعارك المتوالية بحكمة، بعيدًا عن المواجهات غير المجدية، ولقد حضرت في دار الحُكمة أهم هذه الاجتماعات، التي ضمت رؤساء جميع الجمعيات الطبية، وشيوخ وحكماء المهنة؛ لتنظيم مطالب الأطباء، وأسلوب عرضها، مستعينين برأى القانونيين من ذوي الخبرة، وفعلًا تحقق الكثير بفضل هؤلاء الفرسان الحكماء، ومن ذلك:
١- لم يكن مشروع القانون يميز -بوضوح- بين الخطأ الطبي المعتاد حدوثه، والإهمال الجسيم (وتم هذا التعريف بوضوح الآن، فالأخطاء الطبية واردة الحدوث، وليس كل خطأ طبي إهمالًا).
٢- كان مشروع القانون يسمح بالحبس عقوبةً، وبالحبس الاحتياطي للطبيب حتى يتم التحقيق معه في الأخطاء الطبية (وأُلغي ذلك تمامًا، فالخطأ الطبي المهني لن يعاقب بالحبس، ولا الحبس الاحتياطي، وكان ذلك مطلبًا جوهريًّا للجميع).
٣- كان مشروع القانون يشمل غرامة باهظة من مئة ألف الى مليون جنيه في الخطأ الطبي العادي، بالإضافة إلى التعويض (خُفِّضت الغرامة إلى ١٠ آلاف الى مئة ألف جنيه، وكان من المستحيل إلغاؤها تمامًا لأسباب سأذكرها لاحقًا).
٤- كان مشروع القانون لا يذكر -بوضوح- العلاقة بين اللجنة العليا -المستحدثه- للمسؤولية الطبية وإجراءات التحقيق (وتم النص الآن على أن "تكون" -وهي كلمة قانونية واضحة ومحددة- لجنة المسؤولية الطبية العليا ولجانها الفرعية هي الخبير الطبي الذي تلجأ إليه النيابة والمحكمة، وهذه أكبر حماية للأطباء).
٥ - كان مشروع القانون يذكر مساهمة صندوق التأمين -المزمع إنشاؤه- في دفع التعويض نيابة عن الطبيب (وأصبح الصندوق الآن يهدف إلى دفع التعويض بالكامل بعد اجراء دراسة اكتوارية).
٦- تم استحداث مادة جديدة للشكاوي الكيدية وعقاب مقدمها بالحبس حتى ٣ أشهر وبغرامة حتى ٣٠ الف جنيه لمنع حدوثها.
كل ذلك مضافًا إلى مزايا القانون الأخرى منذ بدايته، التي تشمل:
٨ - عقاب المعتدي على الطبيب أو المنشأة الطبية، ولو حتى بالإهانة (وإن كنا نتمنى أن تكون العقوبة أشد).
٩ - لا تُعد المضاعفات المعروفة للمرض أو الجراحة أخطاءً طبية، ويُعفى مرتكبها من أي عقوبة.
١٠ - عقاب المنشأة الطبية وتضامنها في حالة الخطأ الطبي والإهمال الطبي الجسيم (وإن كنا نتمنى أن تكون مسؤولية المؤسسة أكثر وضوحًا).
١١ - إرساء مبدأ التصالح (التسوية الودية) من خلال لجنة يرأسها عضو جهة أو هيئة قضائية، وعند أي مرحلة من مراحل التقاضي؛ لتجنب استمرار الإجراءات القانونية ووقفها بعد التوصل إلى تراضٍ بين الطرفين، وهو بالتأكيد ما سيسعى إليه التأمين ضد أخطار المهنة؛ تجنبًا لإجراءات التقاضي الطويلة، ويعني ذلك سقوط القضية بالتراضي والصلح، وهو الأساس في الغرب.
المستحيل:
كانت هناك طلبات مستحيلة التنفيذ؛ لأنها غير دستورية، أو لأن القانون المصري لا يسمح بها، والحقيقة أن من يستمر حتى الآن في المطالبة بها عليه أولًا أن يراجع القانون المصري وإجراءات التقاضي، ويراجع نفسه، وهو ما تعلمناه جميعًا من خلال هذه التجربة، فلم نكن ملمين بهذه الأمور القانونية، ومنها:
١- طلبنا بإلغاء عقوبة الغرامة نهائيًّا في الخطأ الطبي المعتاد؛ لأنه لا يمكن إقامة الدعوى المدنية للتعويض دون الحكم بالعقوبة أولًا، ولكن ما أمكن تحقيقه هو خفض الغرامة إلى ١٠ آلاف الى مئة الف جنيه بعد أن كانت من مئة ألف إلى مليون جنيه.
٢- طلبنا بإلزام المحكمة بالأخذ بقرار اللجنة الطبية، وهذا غير دستوري أو قانوني؛ لأن رأي الخبير هو رأي استشاري، ولا يمكن في القانون المصري إلزام القاضي بشيء؛ إذ له مطلق الحرية في الحكم العادل، والا أصبحنا محكمة موازية (ولكن جرى العرف أن تأخذ المحكمة برأي الخبير، وهو ما يمكن أيضًا الطعن عليه).
٣- طلبنا بشرط عدم قيام النيابة بالإجراءات القضائية قبل ورود تقرير لجنة المسؤولية الطبية؛ فالقانون يلزم النيابة بالبدء بإجراءات التقاضي عند ورود الشكوى إليها، وهذا لا يعني -كما يدعي البعض خطأً- استدعاء الطبيب، أو أخذ أقواله، أو حبسه احتياطيًّا، ولكن يعني بدء النيابة بمخاطبة لجنة المسؤولية الطبية بصفتها "خبيرًا"، وهذا ما يمكن أن يفسره أو يحدده لاحقًا النائب العام كأسلوب للتقاضي، وقد وعدت الحكومة بذلك.
لقد استطاع فعلًا فرسان الأطباء وحكماؤهم الوصول إلى أقصى (وأقصد فعلًا أقصى) ما يمكن تحقيقه، دون مخالفة للدستور والقانون، وبتعقل وحكمة. مؤكد أنه بقيت بعض الأمور البسيطة التي نتمني تداركها وتوضيحها في الصيغة التنفيذية، وبالتأكيد ستبقى هناك قلة منا غير راضية، وأنصحهم من كل قلبي أن يقرؤوا القانون كاملًا قبل الاعتراض، ويفهموه جيدًا، وأدعوهم أن ينضموا إلى جموع الأطباء لنبقى جميعًا لحمة واحدة، فعملنا الإنساني كأسباب الله في شفاء مرضانا أكبر وأسمى، وحرصنا على سلامتهم أهم وأدعى.
يبقى أن أشكر كل فرسان الأطباء، وعلى رأسهم قائد معسكر الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء الشجاع، الذي لم ينم لحظة منذ بدأت هذه المعارك، وأنا أشهد بذلك، وأحييه على صبره وحكمته وطول باله، وكذلك قادة أجنحة الفرسان من رؤساء جميع الجمعيات الطبية الذين أظهروا حكمتهم وبسالتهم وترابطهم في الأوقات العصيبة، ومجلس النقابة بمن استقال منهم، فالاختلاف للمصلحة العامة لا يفسد للود قضية، وأتمنى من كل قلبي عودتهم إلى بيتهم النقابي، وصناديد الفرسان من حكماء الأطباء، وخاصةً الدكتورة نادية بدراوي، والدكتور عادل عدوي، والدكتور محمود المتيني. ولا يسعني إلا أن أخص بالتقدير والشكر الأخ الفاضل والكريم الدكتور أشرف حاتم، رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، الذي بذل الجهد الأكبر لإحداث التوازن المطلوب في هذا القانون والحفاظ على دستوريته بين كونه طبيبًا بارعًا ونيابيًا مميزًا، وكذلك فرسان الأطباء في مجلس النواب، ومنهم أختي العزيزة ابنة المنصورة الدكتورة نسرين صلاح عمر.
اليوم، ونحن نعيد الأقلام الى أجربتها، والكلمات الى ضمائرها، يجب أن نقول أن الأطباء جميعًا أثبتوا أنهم على قدر المسؤولية، وأن مهنتهم الإنسانية تجاه مرضاهم أتت من قلوب ملأى بالرحمة، وعقول تفيض بالحكمة.