عاجل

في لحظة فارقة من اشتباك الخرائط والسياسات، وجدت سيناء نفسها مجددًا في قلب العاصفة. لم تكن هذه المرة حربًا نظامية ولا معركة على الرمال، بل اتهامات إسرائيلية مدججة بالتحريض، تستهدف حق مصر المشروع في أن تحمي أرضها وتُحصّن حدودها. تل أبيب ـ وفق ما نشرته منصة “أكسيوس” الأميركية ـ حملت شكواها إلى واشنطن، متحدثة عن “حشد عسكري مصري يتجاوز المسموح به” وفقًا لاتفاقية السلام وملحقها الأمني، بل وأشارت إلى مدارج للطائرات ومنشآت تحت الأرض في سيناء، وكأن مصر تُعيد تشكيل سيناريو عسكري يهدد استقرار المعادلة.

لكن الحقيقة أكثر عمقًا مما تحاول إسرائيل ترويجه. فالجيش المصري، في فلسفته واستراتيجيته، لا يتحرك نزقًا ولا يندفع ارتجالًا، بل يُدرك أن أمن سيناء هو جزء من معادلة بقاء الدولة ذاتها. منذ سنوات، واجهت مصر هناك إرهابًا منظّمًا، ودفعت بدماء أبنائها لإعادة الأمن إلى رمالها. واليوم، ومع اشتداد النار في غزة، وتعاظم المخاوف من مخططات التهجير القسري للفلسطينيين، بات على القاهرة أن تحشد وتستعد وتُحصّن حدودها، لا لتتجاوز اتفاقية أو تُهدّد جيرة، بل لتمنع انهيار التوازن ولتقول بصوت السيادة هذه الأرض لنا، وهذه البوابة لا تُفتح إلا بإرادة مصرية خالصة.

التحليل العسكري البارد يكشف أن إسرائيل تتخوف من سيناريوهين: أولهما أن يتحوّل التمركز المصري الكثيف في شمال سيناء إلى قوة ردع غير معلنة، تفرض معادلة جديدة في محيط غزة. وثانيهما أن تُستخدم القدرات اللوجستية والبنية التحتية المصرية كعائق أمام أي مشروع إسرائيلي يلوّح بخيارات التهجير. لذلك، فإن الشكوى ليست فقط عن “مدارج” أو “دبابات” أو “منشآت تحت الأرض”، بل عن إرادة مصرية باتت تترجم نفسها إلى واقع عسكري صلب.

سياسيًا، لا يخفى أن تل أبيب تحاول تصدير أزمتها الداخلية والخارجية عبر افتعال أزمة مع القاهرة. فإسرائيل التي تواجه انتقادات دولية متصاعدة بسبب حربها المفتوحة في غزة، تحتاج إلى تحويل الأنظار، وصناعة “عدو صامت” يمكن تسويقه في العواصم الغربية. ومن هنا جاء استدعاء الإدارة الأميركية إلى المشهد، طلبًا للضغط على مصر، وكأن واشنطن يمكن أن تتحول إلى محكّم في شأن يخص السيادة المصرية وحدها. لكن القاهرة ـ بحكمتها التاريخية ـ تعلم كيف تفصل بين الالتزام بالمعاهدات وبين صيانة أمنها القومي. فهي لم تُخلّ يومًا بالتزاماتها الدولية، لكنها في الوقت نفسه لم ولن تقبل أن تتحول سيناء إلى خاصرة رخوة أو إلى ممرّ للهجرة الجماعية القسرية.

إن قراءة المشهد في كليته تقود إلى استنتاج مركزي .مصر تدير معركة سيادة صامتة، بين التزامات السلام وحدود الخطر، بين لغة المعاهدات وحسابات الأرض. والجيش المصري، بتمركزه وانضباطه، يبعث برسالة مزدوجة ، نحن أوفياء لعهدنا، لكننا لا نُساوم على أمننا. أما إسرائيل، فكلما علا صوت شكواها، انكشف عجزها عن فهم أن سيناء ليست ورقة على طاولة تفاوض، بل هي جزء من الجغرافيا السياسية لمصر، وجزء من معادلة الردع الرشيد الذي يمنع الانفجار لا يفتعله.

في النهاية، قد تُستدعى لجان مراقبة أو وساطات أميركية، وقد تتواصل جولات الضغط والشكوى، لكن الثابت أن القاهرة تتحرك بثبات الجبال، لا تهتز ببيانات ولا تُغيّر مسارها بتهديدات. فسيناء ـ كما يقول التاريخ والجغرافيا ـ ليست فقط أرضًا حررتها دماء المصريين، بل هي خط أحمر يختبر جدية مصر في الدفاع عن وجودها. ومن يقرأ جيدًا فلسفة الجيش المصري، يدرك أن هذا الحشد ليس إعلان حرب، بل مدرسة في الردع الرشيد، تُدير الخطر بوعي، وتُحافظ على الاستقرار بقوة محسوبة، وتُعلّم من يشتكي أن السيادة لا تُستأذن، وأن الأمن القومي لا يُساوم عليه.

تم نسخ الرابط