منذ أن ارتفع صوت العرب في منتصف القرن العشرين داعيًا إلى وحدة السلاح قبل وحدة الشعارات، ظل مشروع «القوة العربية المشتركة» طيفًا يلوح في الأفق أكثر مما يرسو على أرض الواقع. بين قمم الجامعة العربية واتفاقية الدفاع المشترك عام 1950، مرورًا بالمبادرات المتجددة عقب حرب الخليج، وصولًا إلى إعادة الطرح في قمة شرم الشيخ 2015، بقي السؤال معلّقًا..لماذا يتعثر العرب في بناء درع واحد يحميهم؟
الجواب لا يكمن في ضعف الفكرة، بل في وعورة الطريق. فالمعادلة الأمنية في العالم العربي معقدة، والتهديدات متباينة. مصر ترى الإرهاب العابر للحدود خطر لا يقل عن اسرائيل حتى فى وجود اتفاقية سلام، بينما تضع دول الخليج إيران وأذرعها في مقدمة المخاطر، ويواجه المغرب العربي شبح التنظيمات في الساحل والصحراء والهجرة غير الشرعية. هنا يتبدى أول حاجز ؛غياب تعريف موحد للعدو، ومن دونه لا يمكن توجيه بندقية في اتجاه واحد.
ثم تأتي معضلة السيادة، وهي عقدة العرب المستعصية. فكل دولة تتحسس من وجود قوات أجنبية – حتى لو كانت عربية – على أراضيها، أو من وضع جيشها تحت إمرة قيادة خارج حدودها. هذه الحساسية دفعت اتفاقية الدفاع المشترك لتظل حبراً على ورق، وأحالت فكرة القيادة الموحدة إلى صدى في الأرشيف.
وليس الاختلاف في العقيدة العسكرية أقل خطورة. فالجيوش العربية موزعة الولاء بين مدارس التسليح الغربية والشرقية، وتستخدم لغات عسكرية مختلفة، ما يجعل التنسيق القتالي عملية شاقة ما لم تُبنَ قيادة عمليات دائمة وهيكل عسكري جامع، شبيه بما فعله حلف الناتو منذ عقود.
إلى جانب ذلك، يظل التفاوت في القدرات العسكرية عاملًا مقلقًا. فبين جيوش نظامية ثقيلة مثل مصر والجزائر والسعودية والإمارات، وجيوش صغيرة لا تتجاوز أعدادها بضع عشرات الآلاف، تنشأ مخاوف من أن تتحول القوة المشتركة إلى هيمنة جيش بعينه، لا إلى شراكة متوازنة.
ولا يمكن أن نغفل البعد الدولي. فالقوى الكبرى لا تنظر بعين الرضا إلى قوة عربية مستقلة قد تحد من نفوذها، أو تقلص صفقات السلاح، أو تقيّد تدخلها المباشر في المنطقة. لذا، تظل الضغوط الخارجية عاملاً صامتًا في تعطيل الحلم.
وفوق هذا كله، تعصف الخلافات البينية بالعالم العربي .أزمات ليبيا وسوريا واليمن، والاصطفافات المتناقضة إزاء قضايا الإقليم. فكيف يمكن لقوة عسكرية مشتركة أن تتحرك بفعالية، والدول التي يفترض أن تشارك فيها تختلف جذريًا حول هوية الحليف والخصم؟
يبقى سؤال المال والقرار. من يمول؟ من يقرر؟ هل يحتاج التدخل العسكري إلى إجماع أم أغلبية؟ من دون آلية واضحة للتمويل واتخاذ القرار، تبقى الفكرة عُرضة للتآكل.
ورغم ذلك، لا يموت الحلم. فالتجارب الجزئية أثبتت جدواها،التحالف العربي في اليمن، التنسيق الثلاثي بين مصر والأردن والعراق، التعاون الأمني بين بعض دول الخليج. هذه الصيغ الصغيرة، وإن بدت محدودة، قد تكون نواة لتجربة أوسع إذا ما نضجت الإرادة السياسية وتجاوزت الحسابات الضيقة.
الخلاصة أن «القوة العربية المشتركة» ليست مستحيلة، لكنها مؤجلة. مؤجلة إلى يوم يُدرك فيه العرب أن الخطر عليهم جميعًا أكبر من خلافاتهم، وأن بندقية واحدة تصنع أمنًا مشتركًا أرسخ من آلاف البيانات. حينها فقط، يتحول الحلم من قصيدة إلى واقع، ومن شعار إلى جيش.