عاجل

طالعتُ باهتمام شديد، مقالا للكاتب المعروف أحمد رفعت بموقع جريدة البشاير الإلكترونية بعنوان "الظاهرة الكشكيَّة في الخطب المنبرية"، والذي استنكر فيه أسلوب التهكم والسخرية، والشتم والتجريح، الذي يتَّبعه بعضُ الخطباء على المنابر، وهم يحسبون أنَّهم يُحسنون صنعا.

ولا أخفي أنَّ الكاتب محقٌ في استنكاره، بعدما اتسع الخرق على الراقع، وصارت المنابرُ محطة بثٍ لجمل وعبارات، لا تليق بجلال المقام، وسمت العلماء.

ولتذكير القارئ، فقد كانت لي مقالاتٌ سابقة، تناقش هذه القضية، التي تحتاج إلى رعاية واهتمام من أصحاب القرار في هذا الشأن، منها مقال "خطبةٌ يندى لها الجبين"، يكشف عيوب خطبة اليوم، ومقومات الخطبة الناجحة، ولا أرى غضاضة في إعادة نشره من جديد، بيد أنه يناقش قضية هامة، تتطلب أن تنتبه لها وزارة الأوقاف؛ لتقديم خطبة ناجحة .. قال المقال :
وقف على المنبر يُشيحُ بيديه، ويرفعُ عقيرته ناصبا المرفوع، ورافعا المنصوبَ والمجرور، مُؤنثا أو مُخنِّثا ما حقُّه التذكير، مُفردا ما حقُّه الجمع والعكس، غارقا في بحور الشعر جهلا بقواعد اللغة العربية من صرف ونحو وعَروض، فقال للمصلين: عجبا لفتيات اليوم، تقولُ الفتاة لأبيها كاذبة: "أنا ذاهبةٌ إلى الدرس، وهى ذاهبةٌ إلى الحبيب"، فيردُّ بعضٌ ممن جلسوا أمامه يغطون في النوم: صلى الله عليه وسلم.
المؤسف أنَّ هذا المشهد الهزلي، حدث بالفعل، وهو ما يكشفُ عن حال عدد من خطباء اليوم ممن فقدوا أسس ومُقومات الخطبة الناجحة، ويكشفُ أيضا عن حالَ المصلين، الذين جلسوا أمام الخطيب، وآذانهم إحداها من طين، والأخرى من عجين، وجعلوا من خطبة الجمعة فترة نوم واستجمام، وتفكير في أحوال المال والعيال، والزوجة الناشز، ومدير العمل الثقيل وخلافه.
والمتأمل بعين النقد البناء، يلحظ أنَّ وراء هذا المشهد الهزلي - الكاشف عن ضعف عددٍ لا يُستهان به من خطباء اليوم، وبالتالي انشغال المُستمعين عنهم - أمورا منها: تطويلُ الخطبة المُملُّ، وتكرارُ الجمل، والإسهاب في السرد، الذي لا يعدو عن كونه (لت وعجن)، رغم أنَّ هذا مُخالفٌ لسنة النَّبي صلى الله عليه وسلم، التي حرصت على قِصر الخطبة، وإطالة الصلاة؛ لأنَّ الكلام يُنسى بعضُه بعضا،  لهذا قيل: ( خير الكلام ما قلَّ ودل).
ومن عيوب خطبة اليوم كذلك أنَّ بعضا، أو قُل كثيرا من خطباء اليوم، نسي أنَّه قدوة، وانبرى يفعل غير ما يقول، وينتهك من المحرمات ما تستحي منه العوام، غافلا عن أنَّه يقفُ موقف الرسول، ويتكلم بلسان الشرع، ومن ثم فلابد أن يوافق قولُه عمله؛ لكيلا يصدق عليه قول الحق سبحانه: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .
ومن عيوب الخطبة أيضا أنَّ بعض الخطباء يكون في وادٍ وقواعدُ اللغة في واد آخر، فتأتي عباراتُه ركيكة ضعيفة فاقدة لمعناها، بعدما طعن نحوها ووأد صرفها، وهتك عرض بلاغتها.
ومن عيوب الخطبة - هدانا الله وإياكم - أنَّ بعضا من الخطباء، يدخلون في الموضوع جملة واحدة دون وضوح العناصر وتسلسل الأفكار، فيتوه معهم المستمع، ويخرج من الخطبة خالي الوفاض .
ومن العيوب .. عدم مُراعاة الكلام لمقتضى الحال، فالنابه من الخطباء من يعلم أنَّ لكل حدثٍ حديثا، ومُعايشة أحداث العصر من أهمِّ أسباب نجاح الخطبة، وقبول ما يقوله الخطيب .
فحكمةُ الخطيب ألا يضع نفسه في برج عاجي، ويغض الطرف عن مشكلات المجتمع وأحداث العصر .
وأشدُّ ما يعيب بعضا من خطباء اليوم اللحنُ في القرآن، وسوء الحفظ، والخلطُ بين المتشابهات، وغيرها من عيوب القراءة التي تُعتبر وصمة في جبين من يقترفها من ذوى العمائم، الذين من المُفترض أنهم أفنوا زهرة عمرهم في حفظ القرآن وتدبر آياته .

فحرىٌ بخطيب اليوم أن يُشمِّر عن ساعد الجد، ويستمسك بمقومات الخطبة الناجحة التي لابد لصاحبها من علمٍ وفقه ودراية بالقرآن وعلومه، وتوصيل ذلك للمستمع بهدوء، وأناة بعيدا عن الصوت الزاعق واللغة الركيكة، والحركات البهلوانية، التي تتنافى مع جلال المقام والمُتحدِّث .
أظنُّ أنه لو حرص خطباء اليوم على تلك المقومات، ستخرج الخطبة ناجحة مثمرة، ولن ينتقدها ناقد مهما علا قدره .. فهل ستراعي الأوقاف ذلك؟
سؤال ينتظر إجابة .

تم نسخ الرابط