منذ قرون، وصف الفلاسفة الإنسان بأنه "كائن اجتماعي بطبعه"، يميل إلى التفاعل ويجد في التواصل معنى لوجوده. والفكرة هنا أن الاجتماع ليس مجرد اختيار، بل هو جزء من طبيعة الإنسان، أي أن الإنسان يجد اكتماله وراحته وأمنه حين يكون مع غيره، لأن العيش في عزلة تامة أمر لا يطيقه بطبعه، إلا إذا فقد إنسانيته، وبمعنى آخر فإن الإنسان خُلق وفي داخله ميل فطري للتواصل، للتعاون، ولتكوين جماعات وأسر ومجتمعات، لأن هذا هو ما يجعله يحقق إنسانيته كاملة. غير أنّ المشهد تغيّر اليوم بشكل لافت، فالتكنولوجيا، التي وُلدت أصلاً لتقريب المسافات، صنعت جيلاً يميل أكثر إلى الوحدة والعزلة الرقمية، حتى صار التواصل المباشر عبئاً على كثير من الشباب، فيما غدا اكتساب المعرفة محاطاً بتحديات جديدة.
يعيش الشباب اليوم مفارقة عجيبة، فهم محاطون افتراضياً بمئات الأصدقاء عبر شبكات التواصل، لكنهم يشعرون في الواقع بفراغ اجتماعي عميق. هذه الحالة التي يصفها بعض علماء الاجتماع بـ"الوحدة المزدحمة" تكشف كيف حلت الرسائل القصيرة والتعليقات السريعة مكان الحوارات العميقة التي تمنح العلاقات معناها الإنساني. ومع مرور الوقت، يفقد كثير من الشباب القدرة على التعبير المباشر أو الإصغاء الحقيقي، ليجدوا أنفسهم أكثر عزلة من أي وقت مضى.
لم تؤثر التكنولوجيا هنا على كثافة العلاقات فقط، بل على نوعيتها أيضاً. إذ بات كثير من الشباب يجدون صعوبة في قراءة لغة الجسد، أو فهم الإشارات غير اللفظية التي تُعدّ جزءاً جوهرياً من أي تواصل إنساني. كما أن الميل إلى التفاعل الرقمي القصير قلّص من قدرتهم على إدارة النقاشات الطويلة أو التعبير عن المشاعر بصدق. هذا التراجع في المهارات التواصلية لا يظهر فقط في المجال الشخصي، بل ينعكس على فرص العمل، والدراسة، والعلاقات الأسرية، ليشكل في النهاية عائقاً حقيقياً أمام الاندماج الاجتماعي السليم.
ومن الجانب النفسي، تبدو العزلة الرقمية خياراً مريحاً في البداية. فهي تمنح مساحة للهروب من الضغوط اليومية والإحباطات، وتبدو أحياناً كمنطقة آمنة بعيداً عن التقييم والانتقاد. غير أنّ هذه العزلة سرعان ما تنقلب إلى مصدر للقلق والاكتئاب وضعف تقدير الذات، خصوصاً مع المقارنات المستمرة بالآخرين على منصات التواصل. ويجد الكثير من الشباب صعوبة في مواجهة المواقف الاجتماعية الطبيعية، لأن العالم الافتراضي منحهم بديلاً سريعاً عن القبول والاهتمام، لكنه بديل هشّ لا يشبع الحاجات النفسية العميقة.
أما على مستوى المعرفة، فقد خلقت التكنولوجيا ما يمكن وصفه بـ"وهم المعرفة". فبينما ينغمس الشباب يومياً في سيل هائل من المعلومات، يظنون أنهم يملكون وعياً واسعاً بالعالم من حولهم، لكن ما يحصلون عليه في الحقيقة هو معرفة سطحية متقطعة، تفتقر إلى الترابط والعمق. إن تصفح الأخبار المختصرة أو الفيديوهات السريعة لا يعادل قراءة متأنية أو تجربة تعليمية معمقة. والأسوأ أن هذا الوهم يقود إلى حالة من "الاطمئنان الزائف"، حيث يعتقد الفرد أنه ملمّ بكل شيء، فيما هو عاجز عن بناء موقف نقدي متماسك أو فهم متعمق للقضايا المعقدة.
هذه الإشكالية تظهر جلية في المجال الدراسي والمهني. فالشاب الذي يكتفي بمتابعة المحتويات الرقمية يجد صعوبة في الكتابة التحليلية، أو في النقاش المنهجي، أو في الإبداع الفكري، لأنه لم يتعود على عملية التفكير الطويل التي تتطلبها المعرفة الحقيقية. وهكذا، تتحول التكنولوجيا من أداة لتوسيع الأفق إلى عامل لتقليص القدرة على التفكير العميق، الأمر الذي يجعل جيل الشباب مهدداً بالعيش في دائرة من "السطحية المعرفية" مهما بدت معلوماته متدفقة.
ويمكن فهم هذه الظاهرة من زاويتين متكاملتين. فمن الناحية الاجتماعية، لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة، بل تحولت إلى إطار شامل للحياة اليومية، حتى صارت العلاقات الرقمية بديلاً عن الأسرة الممتدة والروابط التقليدية التي كانت تضمن التوازن الاجتماعي. ومن الناحية النفسية، يجد الشباب في العزلة الرقمية تعويضاً سريعاً عن حاجات القبول والانتماء، لكن هذا التعويض هشّ لأنه قائم على إشارات سطحية مثل إعجاب أو تعليق، لا تملك عمق التفاعل الإنساني الحقيقي.
ومع ذلك، لا يبدو الحل في رفض التكنولوجيا أو محاربتها، بل في إيجاد توازن جديد بين الحياة الرقمية والتواصل الواقعي. وهنا يبرز دور المؤسسات التربوية والثقافية في توفير فضاءات حقيقية للتفاعل، عبر الأنشطة الجماعية والرياضية والفنية. كما يحتاج الشباب أنفسهم إلى بناء وعي نقدي يجعلهم قادرين على توظيف التكنولوجيا لتعزيز معارفهم وصلاتهم الاجتماعية، لا للانسحاب منها.
إن مقولة "الإنسان اجتماعي بطبعه" لا تزال صحيحة، لكن التكنولوجيا منحتها وجهاً جديداً، فأدخلت الإنسان في مفارقة الوحدة داخل الزحام. التحدي اليوم ليس في استعادة صورة الماضي، بل في ابتكار طرق تجعل من العالم الرقمي أداة لبناء علاقات أصيلة ومعرفة راسخة وحياة نفسية متوازنة. فالتكنولوجيا ليست قدراً محتوماً، وإنما وسيلة بيد الإنسان، إما أن يستعملها لتعزيز إنسانيته، أو يتركها تدفعه إلى عزلة صاخبة ووهم معرفة لا يقوم على أي أساس.