عاجل

لم تكن واقعة الطالب الأزهري الذي أساء إلى ذكرى المولد النبوي الشريف في خطبة الجمعة مجرد خطأ عابر من شاب في مقتبل العمر، بل هي جرس إنذار جديد يكشف حجم الكارثة التي تتسبب فيها حواضن التطرف ومنابع الفكر المنحرف. هذه الحواضن التي ما زالت تعمل في الخفاء والعلن على تشكيل وعي أجيال من الشباب على كراهية الفرح بذكرى النبي صلى الله عليه وسلم، وتجفيف منابع الحب، وتقديم صورة جافة للدين لا تعرف الرحمة ولا تسمح للمحبة أن تتجذر في القلوب.
لقد ظل الخطاب المتشدد لعقود يروج لفكرة أن أي تعبير عن المحبة والفرح بالنبي هو بدعة وضلالة، بل وصل الأمر إلى اتهام الناس في دينهم لمجرد احتفالهم أو تعبيرهم عن عاطفة صادقة تجاه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. هذا الفكر لم يكتف بتجريد الناس من فرحتهم، بل عمل بجد على فصل المسلمين عن نبيهم، وقطع الصلة الروحية التي هي روح الدين ومغزاه الأسمى. فالاحتفال بالمولد النبوي ليس مجرد طقوس أو مظاهر، بل هو تجديد للعهد مع الرسول، واستحضار لرسالته وقيمه، وإحياء لمعاني الرحمة التي جاء بها.
لكن الفكر المتشدد جعل من هذه الذكرى المباركة ساحة للصراع، فزرع في عقول الشباب الشك، وأوهمهم أن كل مظاهر الحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شرك أو ابتداع. فكانت النتيجة أن ظهر بيننا جيل يفتخر بالعداء لرموز المحبة، ويقف موقف الخصومة من كل ما يربط الأمة وجدانيًا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هؤلاء الشباب ليسوا سوى ضحايا لخطاب منحرف حوّل الدين إلى مجموعة من المحرّمات والتحذيرات، وخلا من الروح والجوهر.
إن أخطر ما في هذا المنهج أنه لا يكتفي بتجفيف منابع المحبة، بل يعمل على تفخيخ العقول. فحين يُربَّى الشباب على الشك في نيات الناس، والنظر بعين الريبة لكل مظهر من مظاهر التدين، وحين يُلقّن بأن الفرح بالنبي بدعة، فإنه يصبح فريسة سهلة لمن يجره لاحقًا إلى تكفير المجتمع واستحلال دمه. إنها سلسلة تبدأ من محاربة المولد النبوي وتنتهي بصناعة عقول متطرفة ترفض الآخر وتؤمن بالعنف.
لقد آن الأوان أن نقول بوضوح هذا الفكر ليس من الإسلام في شيء. الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم دين محبة ورحمة، يقوم على لقد (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ). فكيف يُعقل أن يحارب أتباعه الفرح بذكراه؟ وكيف يُعقل أن يُتهم المسلم بالبدعة لأنه عبّر عن شوقه وحبه؟
إن التصدي لهذا الفكر المتشدد لم يعد خيارًا ثانويًا، بل هو أولوية وضرورة وجودية، لأنه ببساطة يسرق روح الإسلام من بين أيدينا ويحوله إلى كيان جاف لا يعرف المحبة. ومن الخطأ الفادح أن يُتعامل معه على أنه مجرد اجتهاد فقهي؛ بل هو مرض فكري دخيل يجب استئصاله من جذوره. ولن يكون ذلك إلا بإحياء فقه المحبة في خطابنا الديني ومناهجنا التعليمية، حتى يعلم الناشئة أن حب النبي صلى الله عليه وآبه وسلم ليس ترفًا، بل ركن من أركان الإيمان، وأن الفرح بمولده الشريف إحياء للروح الإسلامية لا بدعة كما يزعمون. 
وفي المقابل يجب أن تُعرّى منابر الكراهية التي تسرّبت إلى العقول، ويُكشف ارتباطها بصناعة التطرف والإرهاب، فلا تبقى قادرة على تسميم وعي الأجيال. أما الخطوة الأهم فهي بناء بدائل حية تنبض بالرحمة والإنسانية، تمنح شبابنا فضاءات للتعبير عن حبهم للنبي بطرق عصرية تحيي الوجدان، وتقطع الطريق على هذا التيار الذي لا يجيد سوى إنتاج الكراهية وتجفيف منابع العاطفة.
إن المعركة مع الفكر المتشدد ليست معركة هامشية، بل هي صميم الصراع على هوية الأمة ووعيها. فإذا نجح هؤلاء في فصلنا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يكون غريبًا أن نرى غدًا أجيالًا تتنكر لتاريخها وتراثها، وتفقد البوصلة التي تهديها إلى قيم الرحمة والعدل. 
المطلوب اليوم برنامج شامل يعيد الاعتبار للخطاب الوسطي، ويواجه الانحراف الفكري في جذوره، ويعيد للدين صورته الحقيقية دين المحبة، دين النبي صلى الله عليه وآله وسلن الذي قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين".

تم نسخ الرابط