لم يكن الاعتداء الإسرائيلي على دولة قطر مجرد واقعة عسكرية عابرة تسجل في سجلات الصراع المحتدم بالمنطقة، بل كان حدثا صادما يعكس طبيعة الكيان الصهيوني الذي يصر على تكريس منطق القوة والهيمنة، ويكشف في الوقت ذاته هشاشة النظام الدولي أمام انتهاك سافر للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، وما جرى لم يكن مجرد استهداف لموقع هنا أو منشأة هناك، بل كان رسالة عدوانية ممنهجة، غايتها توسيع دائرة النار في المنطقة وإيصال إهانة مباشرة للسيادة الوطنية العربية، في تحد صارخ لإرادة المجتمع الدولي.
إن الاعتداء على قطر يمكن قراءته من خلال ثلاثة مستويات رئيسية المستوى الأول هو الرسالة الإسرائيلية نفسها، إذ تسعى تل أبيب عبر هذا الفعل إلى فرض مفهوم الردع المبالغ فيه، واستعراض قدرتها على اختراق الحدود وضرب أي دولة عربية متى شاءت، وكأنها تقول للعالم: نحن فوق القوانين ولا نخشى العقاب أما المستوى الثاني فيتمثل في الفراغ الدولي، حيث يقف العالم موقف المتفرج، مكتفيا ببيانات الشجب والإدانة التي تحولت بفعل التكرار إلى صدى باهت لا يغير من الواقع شيئا، وهو ما يضع علامات استفهام كبرى حول مصداقية النظام العالمي وقدرته على حماية أصغر الدول قبل أكبرها بينما يتمثل المستوى الثالث في التداعيات العربية والإسلامية، فالعدوان على قطر لم يكن حادثا منفصلا، بل هو جزء من مشروع استراتيجي أوسع يستهدف الأمة كلها، ويعيد التأكيد على أن مصير العرب واحد، وأن أي اعتداء على دولة عربية هو اعتداء على الجسد العربي بأسره.
خطورة هذا الحدث تتضاعف كونه جاء في لحظة مفصلية تعيشها المنطقة، حيث تتشابك ملفات القضية الفلسطينية مع قضايا الاستقرار الإقليمي، وتزايد محاولات فرض "صفقات الأمر الواقع" على الشعوب ومن ثم، فإن الاعتداء على قطر لم يكن سوى حلقة في لعبة أكبر، هدفها إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط على حساب أمنه واستقراره، وإحياء منطق فرض الإرادة بالقوة على حساب الحوار والاحترام المتبادل.
لكن، وعلى الرغم من هذا التصعيد، فإن إسرائيل أخطأت الحسابات فالعدوان على قطر لم ينجح في بث الرعب أو خلق الانقسام كما أرادت تل أبيب، بل أيقظ روح التضامن العربي والإسلامي، وولد حالة من الالتفاف حول الدوحة، باعتبارها دولة تعرضت لعدوان غاشم وقد انعكس ذلك سريعا في الدعوة العاجلة إلى عقد قمة عربية وإسلامية طارئة في الدوحة، لبحث الرد الجماعي على هذه الجريمة، ولصياغة موقف موحد يعيد الاعتبار للكرامة العربية والإسلامية في مواجهة سياسات البطش والتوسع.
إسرائيل، في تصورها، تحاول أن تعزف على أوتار النار، متخيلة أن صوت القنابل سيغطي على أصوات الحق لكنها لم تدرك أن النار قد تحرق أصابعها أولا، وأن الدم العربي حين يسفك على أرض عربية، يتحول إلى جرس إنذار يوقظ الضمائر ودليلا على أن السيادة الوطنية ليست سلعة قابلة للتلاعب أو المساومة والتجربة التاريخية تؤكد أن إسرائيل كلما تمادت في عدوانها، دفعت ثمنا باهظا ليس فقط على مستوى ردود الفعل المباشرة، بل أيضا على مستوى صورتها الدولية التي تتآكل يوما بعد يوم فقد تحول العدوان على قطر إلى دليل إضافي على أن الكيان الصهيوني لم يعد خطرا على دولة بعينها، بل بات خطرا على الأمن والسلم الدوليين برمتهما.
ومن قلب هذا المشهد يبرز سؤال جوهري: إلى متى سيظل النظام الدولي عاجزا عن محاسبة المعتدي؟ أليست الأمم المتحدة هي المظلة المفترضة لحماية الدول الصغيرة قبل الكبيرة؟ وكيف يمكن إقناع الشعوب بوجود نظام عالمي عادل، بينما تنتهك سيادة دولة مثل قطر أمام أعين الجميع بلا رادع؟
الحقيقة أن الإجابة لا تكمن فقط في مؤسسات دولية فقدت الكثير من مصداقيتها، بل في الإرادة العربية المشتركة فما تحتاجه الأمة اليوم هو استعادة وحدتها ووعيها بأن الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ والاعتداء على قطر ليس بعيدا عن الاعتداء على فلسطين أو سوريا أو لبنان أو أي دولة عربية أخرى؛ إنها حلقات في سلسلة واحدة، ومشروع واحد، والرد يجب أن يكون أيضا بمشروع عربي موحد يعيد صياغة التوازن ويكسر منطق الهيمنة.
لقد كان العدوان الإسرائيلي على قطر جرس إنذار مدويا، يذكرنا بأن المنطقة لا تزال مستهدفة وأن السيادة العربية لا يمكن أن تحمى إلا بتكاتف الشعوب والدول، قطر اليوم في قلب الحدث، لكنها ليست وحدها في الميدان؛ فكل العرب معها، وكل الضمائر الحية في العالم ترفض هذا العدوان الغاشم ولعل القمة العربية والإسلامية المرتقبة في الدوحة تكون بداية لمرحلة جديدة من العمل الجماعي، تتحول فيها الكلمات إلى أفعال، والإدانة إلى ردع، ويعاد الاعتبار للحق العربي في مواجهة الباطل الإسرائيلي.
إن ما جرى في قطر ليس مجرد صفحة جديدة في كتاب الصراع، بل هو امتحان حقيقي لقدرتنا كأمة على حماية سيادتنا وصون كرامتنا وسيبقى صوت الحق أقوى من أزيز الرصاص، وستظل الإرادة العربية إذا اجتمعت أقوى من كل محاولات فرض الهيمنة، فالعدوان مهما اشتد لن يغير من حقيقة واحدة وهي أن الحق العربي باقي وأن الشعوب التي تتوحد قادرة على قلب موازين القوى، مهما بدا المشهد قاتما أو مختلا.