لا يكاد يمر يوم دون أن يستشعر الإنسان ثِقَل الدعوات النبوية التي كان يرددها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعَجْز والكَسَل، والبُخل والجُبْن، وضَلَعِ الدَّيْن وغَلَبَةِ الرجال»، ربما رددنا هذا الدعاء طويلًا دون أن نتوقف عند معنى قهر الرجال، حتى نصادف مواقف وتجارب تجعلنا ندرك عمق الكلمة ومرارتها.
قهر الرجال ليس مجرد كلمة عابرة، بل هو إحساس داخلي بالانكسار، عندما يُظلم المرء فيعجز عن رد الظلم، أو حين يلهث خلف حلم مشروع ثم يجد من يحطم آماله، أو حين تعجز يداه عن تلبية أبسط احتياجات أسرته فيشعر بالانكسار أمام نفسه قبل أن يشعر به أمام الناس.
من أصعب الصور التي تجسد هذا المعنى، مشهد رجل جالس على الرصيف في أحد شوارع المدينة، يبكي بحرقة غير قادر على إخفاء دموعه، وحين سألته عن السبب، قال بصوت متهدج،«صعبان عليّ نفسي يا ابنتي، لم أعد أستطيع السيطرة على مشاعري، لم أعد قادرًا على توفير مصاريف مدارس أولادي، ولا أملك ما أعود به إلى بيتي».
كانت كلماته كافية لأفهم لماذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قهر الرجال، فهو ليس مجرد ضيق أو حزن عابر، بل انكسار يمس جوهر الكرامة الإنسانية.
القهر ليس مرتبطًا بالفقر وحده، بل هو الشعور بالعجز أمام الحياة، أن يرى الإنسان نفسه محاصرًا في زوايا ضيقة لا مخرج منها، أن يُحرم من القدرة على حماية من يحب أو الوفاء بوعوده لهم، القهر شعور يفتك بالروح بصمت، لا يُرى بالعين لكنه يقتل الأمل داخليًا.
وهنا ندرك حكمة الدعاء النبوي، إذ جمع بين الاستعاذة من الهم والحزن، وهما آلام داخلية، وبين العجز والكسل، وهما ضعف الإرادة، ثم أضاف قهر الرجال باعتباره أشد المصائب التي تصيب النفس والكرامة.
التاريخ الإسلامي زاخر بنماذج واجهت القهر وصبرت عليه يوسف عليه السلام أُلقي في الجب ظلمًا، ثم بيع عبدًا، ثم سُجن بغير ذنب، لكنه لم يستسلم لليأس.
وكذلك الصحابة الكرام الذين عُذبوا في مكة وصبروا حتى جاءهم نصر الله هذه النماذج تعلمنا أن القهر ليس نهاية المطاف، بل قد يكون طريقًا إلى رفعة أعظم.
في واقعنا المعاصر، تتجلى صور القهر بأشكال مختلفة، فالأزمات الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة جعلت كثيرًا من الرجال يعيشون صراعًا صامتًا، يبتسمون أمام أسرهم بينما تختبئ دموعهم في الداخل، يتحملون أعباءً فوق طاقتهم، وفي الوقت نفسه يطالبهم المجتمع بالتماسك والصبر دون أن يمنحهم دعمًا أو تقديرًا.
هذا الصراع يولد أزمات نفسية واجتماعية، وقد يؤدي أحيانًا إلى الانعزال أو الانهيار، فالمقهور ليس مجرد فرد يعاني، بل هو أب وأسرة ومجتمع بأكمله يتأثر بجرحه الصامت.
ومع ذلك، يبقى باب الأمل مفتوحًا، فالله عز وجل لا يترك قلبًا مكسورًا إلا وجبره، ولا يخذل عبدًا لجأ إليه بقلب منكسر، يقول تعالى: «فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا».
المجتمع بحاجة إلى مزيد من التعاطف، إلى أن يشعر المقهور أن هناك من يراه ويقدره ويقف إلى جانبه. كلمة طيبة، نظرة احترام، أو دعم معنوي ومادي، قد تكون كفيلة بتخفيف وطأة القهر وإعادة شيء من الكرامة المفقودة.
إن قهر الرجال جرح صامت استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يفتك بالنفس ويكسر الروح قبل الجسد، وهو ليس مأساة فردية فحسب، بل قضية إنسانية تؤثر في الأسرة والمجتمع فحين يُقهر الرجل، تُقهر معه أسرته، ويُقهر معه مستقبل أبنائه، ويُقهر معه الوطن.
لكن القهر لا يدوم، والظلم لا يستمر، والرجاء في الله لا ينقطع فلنتمسك بالأمل، ولنمد أيادينا رحمةً ودعمًا، لعلنا نكون سببًا في جبر قلوب مكسورة ودفع مصيبة استعاذ منها خير البشر.