ضغوط متبادلة.. كيف يؤثر ملف المياه على علاقات حكومة طالبان بدول الجوار؟

تتحول المياه اليوم إلى سلاح استراتيجي في قلب آسيا الوسطي، حيث تسعى حكومة طالبان إلى إعادة تشكيل موازين القوى عبر السيطرة على منابع الأنهار العابرة للحدود؛ فمنذ عودة طالبان للحكم في كابول عام 2021، لم تكتِف الحركة بفرض سيطرتها السياسية والعسكرية داخل أفغانستان، بل اتجهت إلى ورقة أكثر خطورة وحساسية: المياه، وبناء السدود على أنهار حيوية مثل نهر آموداريا، ونهر هلمند، ويتجاوز ذلك التوجه خدمة أهداف تنموية؛ ليصبح أداة ضغط إقليمية تهدد الأمن المائي لإيران وأوزبكستان وتركمانستان وباكستان، وفي ظل التغيير المناخي المتسارع، وشح الموادر المائية في المنطقة، حيث باتت هذه الاستراتيجية بمثابة تهديد وجودي قد يدفع دول الجوار إلى تصعيد ضد كابول.
وتأسيسًا على ذلك، يتطرق التحليل التالي من مركز رع للدراسات الاستراتيجية إلى استراتيجية طالبان المائية بوصفها أحد أبرز محاور سياستها الإقليمية بعد 2021، وذلك من خلال تناول توقيت وأسباب توظيف هذه الورقة والتحركات التي اتخذتها الحركة للسيطرة على موارد المياه التي باتت أكثر ندرة، وأهميتها في المعادلة الإقليمية.
التوقيت وأسبابه
منذ سيطرة طالبان على السلطة في 2021، واجه الاقتصاد الأفغاني أزمة عميقة تمثلت في انتشار الفقر ونقص حاد في الموارد الأساسية، وفي مقدمتها المياه؛ وقد ساهمت جائحة كوفيد- 19 في تعميق هذه الأزمات من خلال إضعاف النشاط الاقتصادي وزيادة معدلات البطالة، بالتوازي مع حالة عدم الاستقرار السياسي التي رافقت تلك المرحلة الانتقالية. ونتيجة لذلك شهد الاقتصاد في البلاد حالة انكماش غير مسبوقة1، حيث قدَر البنك الدولي تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 20% خلال عام 2021، وهو ما جعل طالبان تبحث عن أدوات جديدة لتعزيز شرعيتها الداخلية وتأمين موارد بديلة، وكان الملف المائي من أبرز تلك الأدوات2.
وعلى الرغم من جميع الجهود التي سعت من خلالها كابول للحصول على دعم المجتمع الدولي على مدار عقدين؛ فإن أفغانستان لا تزال تعاني بشكل كبير من نقص حاد في الموارد المائية بسبب استمرار الصراعات الداخلية، وضعف دور المؤسسات داخل الدولة وسوء الإدارة إلى جانب تداعيات التغير المناخي. وعلاوة على ذلك فإن قدرة البلاد على التخزين تبلغ 140 متر معكب للفرد سنويًا – وذلك يعتبر الحد الأدني للفرد في العالم وفق البنك الدولي عام 2010، ومع بلوغ حصة الفرد من المياه حوالي 16 لترًا يوميًا، وذلك يتناقض مع المعدل العالمي. وعلى الرغم من امتلاك كابول موارد مائية هائلة؛ إلا إن أفغانستان لم تعد قادرة على استغلال تلك الميزة بفاعلية.
تحركات طالبان للسيطرة على المياه
خلال سنوات تمكنت طالبان بوحدة الصف والتماسك داخل البلاد حتى عودتها للحكم خاصة خلال المواجهات مع القوات الأمريكية التي استمرت نحو 20 عامًا؛ بين تحديات وتهديد تماسكها، كما أن أفغانستان مارست سيطرة محدودة على الأحواض الخمس الكبرى التي تغذيها بالمياه مع دول أخرى في وسط آسيا، فحين عودة طالبان إلى مقاليد الحكم سعت إلى إعادة سيادتها على إدارة المياه؛ كما أن البلاد تعاني من تداعيات التغير المناخي وقلة الأمطار، مما ترتب عليه طرح مشاريع عديدة تُشكل مصدر خطر وتوتر مع دول الجوار وذلك بالتوازي مع سعي الحركة للاعتراف الدولي بوجودها كحكومة شرعية، ويمكن توضيح ذلك خلال النقاط الآتية3:
(*) إيران: تعتبر إيران من أولى الدول التي وقعت مع أفغانستان معاهدة لتقاسم مياه نهر هلمند عام 1973، ويُعد نهر هلمند أطول نهر في أفغانستان حيث يمتد طوله 1.150 كيلو متر، ولكن مع مرور الوقت لم تطبق تلك المعاهدة، وعلى ذلك تتجدد التوترات القديمة حول بناء السدود في جنوب أفغانستان؛ حيث تعاني إيران من جفاف شديد في مناطقها الحدودية، وسوف تعيق السدود تدفق المياه بشكل كبير في نهر هلمند نحو إحدى بحيرات طهران الحيوية، ومقابل ذلك تؤكد السلطات في كابول أن البلاد لا تملك ما يكفي من موارد مائية لتلبية هذا الالتزام، مشيرة إلى تداعيات التغير المناخي كعامل رئيسي في تراجع الإيراد المائي.
(*) آسيا الوسطي: منذ عام 2021، برزت أفغانستان كلاعب جديد في ملف المياه المعقّد الذي يرتبط بنهر آموداريا، ويُعد شريانًا حيويًا لبلدان آسيا الوسطي. تعود اتفاقية تقاسم مياه النهر إلى الحقبة السوفييتية، وهذا ما يجعل أي تغيير في تدفقه مصدرًا لحساسية إقليمية. وتعمل حكومة طالبان على مشروع قناة “قوش تبة” التي أثارت قلقًا متزايدًا لدول الجوار، إذ تهدف لتحويل ما يصل إلى 21% من مياه نهر آموداريا لري نحو 500 ألف هكتار في شمال أفغانستان، وقد يؤدي ذلك المشروع إلى جفاف في بحر آرال؛ الذي يعاني من تراجع حاد في منسوب المياه. وتُعد أولى الدول المتضررة من ذلك التحول المحتمل أزوبكستان وتركمانستان؛ إذ سيؤثر المشروع على علاقتهما مع كابول، أما كازاخستان فهي لا تخفي قلقها من التداعيات التي سوف تصيبها من آثار بيئية واقتصادية.
إن النزاع الخفي بين كابول ودول الجوار على مياه وسط آسيا، بدأ يظهر بصورة واضحة، حيث أن ملف توزيع واستخدام الموارد المائية من أكثر المشاكل المستعصية على الحل مع الجيران وخاصة مع طهران، حيث تعود الخلافات إلى قرن كامل وظهرت مجددًا منذ إعلان حكومة طالبان اعتزامها بناء سدود وإدارة المياه التي تصب في الأراضي الإيرانية4. إقليميًا وعند النظر إلى أهمية ملف المياه والطاقة؛ فإن حكومة طالبان تسعى إلى توسيع جهودها في إنتاج الطاقة وإدارة الموارد المائية، ويترتب على ذلك تقليل الاعتماد الخارجي في المياه والكهرباء وتحويل مجاري الأنهار العابرة للحدود باتجاه الداخل الأفغاني.
إن سياسات الحكومة في ملف المياه جزاء أصيل من استراتيجية طالبان للحكم، فإن المياه ليست موارد فحسب، لكنها أداة استراتيجية في إدارة العلاقات مع الجوار؛ حيث قال أحد مسؤولي وزارة الدفاع “نحن لا ننتهك حقوق جيراننا في المياه لنهر آموداريا، لكننا نأخذ حقنا، ولا ينبغي لأحد أن يمنعنا من ذلك”5.
(*) باكستان: العلاقات الأفغانية – الباكستانية تشهد توترات وتباينات عدة، إلا أن المياه لا تُعد مصدرًا مباشرًا لتلك التوترات، وعلي الرغم من أن كابول وإسلام آباد يتنقاسمان مياه نهر كابول الذي يعتبر المصب الرئيسي للعاصمة الأفغانية قبل أن يصب في حوض أندوس داخل أراضي إسلام آباد، إلا أنه لا توجد أي آلية تعاون بين البلدين في تلك النقطة. وقد يدفع ذلك حكومة طالبان لإحياء مشاريع قديمة، والبدء في مشروعات جديدة للاستفادة من مياه النهر لمواجهة التحديات الاقتصادية الناجمة عن سوء إدارة الموارد بالبلاد6.
تحركات دول الجوار
في مواجهة استراتيجية طالبان المائية، لم تقف دول الجوار مكتوفة الأيدي، بل اتخذت تحركات دبلوماسية وأمنية واقتصادية؛ تهدف إلى حماية أمنها المائي وضمان استمرار تدفق مياه الأنهار المشتركة بينهم، حيث أن نهر آموداريا المعروف بنهر جيحون يعتبر مورد حيوي تشترك فيه دول آسيا الوسطي، وإيران وباكستان ويُعد ذلك النهر على جانب كبير من الأهمية لدول المنطقة، إذ يغذي الزراعة والصناعة ويعكس معضلات تتعلق بالتعاون الدولي وإدارة ملف المياه بينهم.
(*) تركمانستان: تُعد قناة قره قوم أحد أبرز مشاريع البنية التحتية المائية في تركمانستان، وشُيّدت خلال الحقبة السوفييتية لمعالجة أزمة الجفاف المزمنة في البلاد. كما أن القناة تعتمد بشكل رئيسي علي نهر آموداريا وتضخ كميات مياه كبيرة من الشرق إلى الغرب بطول 1300 كيلو متر، لتغذي نحو مليون هكتار من الأراضي الزراعية، لأن عشق آباد وطهران تخططان لبناء سد آخر على نهر مرغاب؛ وذلك بدون التشاور أو التنسيق مع الجانب الأفغاني، وتلك التحركات قد أثارت انتقادات بين الحكومات لتجاهل دور كابل، التي تُعد شريك أساسي في إدارة هذه الموارد العابرة للحدود.
(*) أوزبكستان: يشكّل نهر آموداريا في طشقند شريان يدعم قطاع الزراعة ويُعد من الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني. كما تتوزع مياه النهر عبر ست مقاطعات رئيسية، لتُستخدم بكثافة في ري المحاصيل الزراعية، لاسيما القطن والحبوب، وعلى الرغم من أهمية النهر كمصدر رئيسي للري، فإن نهايته في بحيرة آرال؛ التي تعاني من جفاف وتقلص مستمر، لذلك أخذت الحكومة الأوزبكية خطوات عملية لتعزيز إدارتها للموارد المائية، من خلال بناء وإنشاء سد توريالانج في جنوب مقاطعة سورخان داريا، ويُعتبر ذلك من أكبر المشاريع المائية للبلاد.
(*) طاجيكستان: تتولي البلاد استراتيجية مياه نهر جيحون، ليس لدعم المجال الزراعي فقط؛ ولكن لدعم وتطوير البنية التحتية في مجال الطاقة، وفي إطار جهود حكومة دوشانبي لتعزيز الإنتاج الكهربائي ومعالجة الانقطاعات المتكررة، تخطط طاجيكستان لإنشاء 14 محطة طاقة جديدة على امتداد النهر. ويُعد مشروع “دست جام” من أبرز هذه المبادرات7.
في الختام، يتضح أن استراتيجية طالبان في استخدام المياه لم تُعد مجرد قضية تنموية داخلية، بل تحولت إلى ورقة ضغط إقليمية تهدد استقرار منطقة وسط آسيا، فبينما تسعى حكومة الحركة لتوظيف الموارد المائية لتعزيز سلطتها الداخلية وإيجاد اعتراف خارجي بشرعية الحكومة، ونجد أن دول الجوار أمام معضلة وجودية تتعلق بالأمن المائي والغذائي كما أن مستقبل المنطقة سوف يظل رهيًنا بقدرة الأطراف علي إدارة ذلك الملف الحساس عبر التفاوض والتعاون.