عاجل

في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام، تحل ذكرى المولد النبوي الشريف، المناسبة التي تحمل مكانة خاصة في قلوب المسلمين، إذ يستعيدون فيها ميلاد الرسول محمد ﷺ، الذي جاء إلى الدنيا في لحظة فارقة من التاريخ الإنساني.
وبينما ترتبط المناسبة في مصر ودول أخرى بمظاهر احتفالية مثل توزيع الحلوى وعرائس المولد، فإن جوهرها يظل مرتبطًا باستحضار السيرة النبوية، والتأمل في الرسالة التي غيرت مجرى التاريخ.
تختلف الروايات حول أول من احتفل بالمولد النبوي، فالبعض يُرجع البداية إلى العصر الفاطمي، حين ارتبطت المناسبة بالمواكب الرسمية وصناعة الحلوى وتوزيعها ،فيما يؤكد مؤرخون آخرون أن الملك المظفر أبو سعيد كوكبري، حاكم أربيل في عهد الأيوبيين، كان أول من جعل للمولد طابعًا منظمًا واسعًا، حيث كان يقيم احتفالات ضخمة يشارك فيها العلماء والفقهاء والشعراء، وينفق عليها بسخاء بالغ.
ومنذ ذلك الحين، أصبح المولد النبوي مناسبة دينية واجتماعية بارزة في المجتمعات الإسلامية.
تكمن القيمة الكبرى لذكرى المولد النبوي في استحضار صورة العالم قبل ميلاد الرسول ﷺ.
الإمبراطورية الرومانية، رغم قوتها العسكرية، عانت فسادًا سياسيًا واجتماعيًا، وتفككت فيها الأسرة، وانتشرت العبودية والطبقية.

الإمبراطورية الفارسية غرقت في الانحراف العقائدي والاجتماعي، حيث شاع زواج المحارم وعبادة النار، ووصل تقديس الملوك إلى حد اعتبار دمهم دمًا إلهيًا.
الجزيرة العربية كانت غارقة في مظاهر الجاهلية؛ إذ عبد العرب الأصنام، وانتشرت بينهم الخمر والربا والميسر، واشتعلت الحروب القبلية، فيما مارس بعضهم عادة وأد البنات بلا رحمة.
لقد كان العالم بأسره على شفا الانهيار، يفتقد القيم الروحية والإنسانية.
وسط هذا المشهد القاتم، جاء مولد النبي محمد ﷺ ليكون بداية عهد جديد. برسالته، أرسى قيم التوحيد، والعدل، والمساواة، والتسامح، وحارب العصبية القبلية، وكرّم المرأة بعدما كانت مهانة، وأعاد للإنسان كرامته بعد أن فقدها، وهكذا تحوّل ميلاده من حدث تاريخي إلى نقطة تحول غيرت مسار البشرية بأكملها.
رغم أن الاحتفال بالمولد يختلف في مظاهره بين دولة وأخرى، فإنه يظل في جوهره فرصة للتأمل في الرسالة النبوية وتجديد القيم التي جاء بها الإسلام. ففي مصر مثلًا، تُعد حلاوة المولد من أبرز مظاهر المناسبة، لكنها لا تنفصل عن البعد الروحي الذي يجعل من الذكرى محطة سنوية للتذكير بالعدل والرحمة والمحبة التي دعا إليها الرسول ﷺ.
إن ذكرى المولد النبوي ليست مجرد احتفال شعبي أو مناسبة دينية، بل هي رمز لبداية نور أضاء العالم بعد ظلام طويل، ورسالة إنسانية خالدة تدعو إلى الخير والسلام. وما أحوج العالم اليوم إلى استلهام تلك القيم، ليظل مولد النبي ﷺ مناسبة للتجديد والإصلاح، ومصدرًا دائمًا للأمل.

تم نسخ الرابط