يُعَدّ المولد النبوي الشريف من المناسبات الدينية التي لا يزال صداها يتردد في وجدان المسلمين، لكنه في الوقت نفسه ظلّ موضع نقاش وجدال بين العلماء والمجتمعات منذ ظهوره في العصور الإسلامية المتأخرة. فقد ارتبط الاحتفال بهذه الذكرى بمسائل فقهية وفكرية وسياسية واجتماعية جعلت منه أكثر من مجرد مناسبة زمنية، بل ساحةً تعكس عمق العلاقة بين الدين والتاريخ والتحولات الثقافية.
أول ما يثير الجدل في المولد هو الحكم الشرعي فيه، إذ انقسم العلماء بين من يرفضه رفضًا قاطعًا باعتباره بدعة محدثة لم تُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة، ومن أبرز هؤلاء ابن تيمية والشاطبي، وبين من أجازه بل ورآه مستحبًا إذا اقتصر على الذكر وتلاوة السيرة والإنشاد الديني، مثل السيوطي وابن حجر العسقلاني، معتبرين أن التعبير عن محبة الرسول أمر مشروع، وأن الاحتفال صورة من صور التعظيم المشروع لشأنه. وبذلك غدا المولد نموذجًا حيًا لجدل البدعة بين ما هو مذموم وما قد يُعتبر حسنًا إذا خدم مقصدًا شرعيًا.
ولم يتوقف النقاش عند المشروعية، بل امتد إلى طبيعة الممارسات المصاحبة للاحتفال. ففي حين اعتُبرت المدائح النبوية، وقراءة القرآن، وتلاوة السيرة أعمالًا مقبولة ومندوبة، انتُقدت بعض المظاهر التي قد تشوب المناسبة كالاختلاط أو الإسراف أو إدخال طقوس لا أصل لها في الدين. وهكذا أصبح المولد مرآةً لتداخل الديني بالاجتماعي، وللسجال حول الحدود الفاصلة بين التعبير المشروع والانحراف عن جوهر الذكرى.
أما على المستوى السياسي، فقد استخدم المولد عبر التاريخ وسيلة لإبراز شرعية الحكم وإظهار رعاية السلطان للدين، كما في العهد الفاطمي أو العثماني، حيث تحوّلت المناسبة من طقس شعبي تعبّدي إلى احتفال رسمي يزخر بالمواكب والمراسيم. وقد أثار هذا البُعد السياسي تساؤلات حول مدى صفاء الباعث الديني، وحول إمكانية توظيف الشعائر لأغراض سلطوية.
ولم يكن البُعد المذهبي بعيدًا عن هذه الجدلية؛ فبينما تحتفي به الطرق الصوفية والتيارات السنية التقليدية باعتباره مناسبة روحية لتجديد الصلة بالرسول، تعارضه بعض التيارات السلفية باعتباره من البدع التي تُشوّه نقاء الدين. وبذلك أضحى المولد ساحةً يتجلى فيها الخلاف المذهبي بأبعاده العميقة، حيث يُنظر إليه تارةً كوسيلة لتعميق المحبة، وتارةً أخرى كخطر يهدد نقاء العقيدة.
وفي العصر الحديث برزت إشكالية جديدة تتعلق بتحوّل المولد إلى طقس يغلب عليه الطابع الاستهلاكي، حيث ارتبطت المناسبة بصناعة الحلويات، وبالمظاهر التجارية التي قد تُفرغها من بعدها الروحي. وبينما يرى البعض في ذلك مظهرًا اجتماعيًا بريئًا من مظاهر الفرح، يرى آخرون أنّه يعكس انزياحًا عن المعنى الأصيل، وتحويل الذكرى إلى عادة اجتماعية أكثر منها محطة للتزود الإيماني.
ولم يتوقف النقاش عند حدود المجتمعات الإسلامية التقليدية، بل امتد في زمن العولمة إلى سؤال آخر: كيف يمكن إحياء المولد في البيئات الغربية أو متعددة الأديان؟ هل يُقدّم بوصفه شعيرة دينية خاصة بالمسلمين، أم يُطرح باعتباره عنصرًا من عناصر التراث الثقافي الإسلامي الذي يُظهر الوجه الحضاري للإسلام أمام العالم؟ وهنا يلتقي النقاش الفقهي بالبعد الحضاري والإنساني، حيث تتحول المناسبة إلى جسر للتعريف بالقيم النبوية في أفق كوني.
يتضح من ذلك أنّ المولد النبوي لم يكن مجرد مناسبة دينية تُستعاد كل عام، بل كان –وما يزال– مساحة يتقاطع فيها الفقهي بالسياسي، والروحي بالاجتماعي، والمذهبي بالثقافي. فالخلاف حوله ليس خلافًا على ذكرى زمنية فحسب، وإنما هو انعكاس لعمق أسئلة الشرعية والهوية والحداثة في المجتمعات الإسلامية. وبين من يرفضه بدعوى المحافظة على صفاء الدين، ومن يتبناه باعتباره تعبيرًا عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتجديدًا للصلة برسالته.
يبقى التحدي هنا في أن نُعيد لهذه الذكرى معناها الأصيل، وأن نجعلها فرصة لاستحضار القيم التي جاء بها النبي: الرحمة والعدل والوحدة، بدل أن تنحصر في سجالات فقهية أو مظاهر استهلاكية عابرة. وهكذا يظل المولد، رغم كل الخلافات، شاهدًا على حيوية الرسالة المحمدية وخلودها عبر الزمن.