عاجل

في كل عام يطل علينا شهر ربيع الأول بذكراه العطرة، ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء للعالمين رحمة وهدى. إنها مناسبة تتجاوز حدود الزمان لتصبح رمزًا متجددًا لقيم النبوة الرحمة والعدل والتسامح وإحياء الأمل في النفوس. ومع ذلك، فإن هذا النور الذي يضيء القلوب يقابله ظلام آخر يصنعه خطاب التطرف والتشدد، الذي يحاول أن يحجب عن الناس فرحتهم وأنوارهم.
حين نتأمل في رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنها لم تكن مشروعًا عقائديًا جامدًا، بل رسالة حياة جعلت من الرحمة أساسًا ومن الفرح عبادة قلبية. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يبتسم في وجه أصحابه، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويؤكد أن الدين يُسر لا عسر. فكيف يستقيم أن نُحيي ذكرى ميلاده بغير الفرح، وهو الذي علّمنا أن يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا؟ من هنا كان الاحتفال بالمولد النبوي فعلًا رمزيًا يعيدنا إلى جوهر الرسالة أن يكون الدين حياة لا قيودًا، وباعثًا على الأمل لا سببًا للإحباط أو التخويف.
غير أن المتشددين لم يتوقفوا عن ترديد دعاوى متكررة لتجريم هذه الذكرى. فهم يعتبرونها بدعة ضلالة استنادًا إلى الحديث الشريف كل بدعة ضلالة. لكنهم يغفلون أن العلماء ميّزوا بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة. فقد قال الإمام الشافعي المحدثات من الأمور ضربان ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، وما أحدث من الخير لا خلاف فيه فهذا محدث غير مذموم. وبهذا المعنى يصبح المولد من البدع الحسنة لأنه يذكر الناس بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقربهم منه. وقد أكد الإمام السيوطي جواز الاحتفال بالمولد، وعده من القربات التي يثاب عليها المرء لما فيها من تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أفتى الإمام ابن حجر الهيتمي بجوازه بل واستحبابه.

ومن دعاواهم أيضًا أن الصحابة لم يحتفلوا بالمولد، وكأن غياب الشكل الذي نعرفه اليوم يعني التحريم. صحيح أن الصحابة لم يقيموا احتفالًا خاصًا في يوم المولد، لكنهم كانوا يعبرون عن محبتهم للنبي بوسائل تناسب عصرهم. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سُئل عن صيام يوم الإثنين قال ذلك يوم وُلدت فيه، فجعل من يوم مولده مناسبة للعبادة. فإذا كان النبي قد خص يوم مولده بعبادة، فما المانع أن نخصه نحن بذكر وصلاة وإنشاد فرحًا بقدومه؟ أليس هذا استمرارًا لمعنى الاحتفاء الذي بدأه النبي نفسه؟
ويكثر المتشددون من ترديد مقولة إن المولد بدعة فاطمية، وأن أول من احتفل به هم العبيديون الشيعة في مصر. وهذه دعوى مردودة تاريخًا وشرعًا. فقد أوضح الحافظ جلال الدين السيوطي أن أول من أحدث الاحتفال بالمولد على صورته المعروفة هو الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين، صاحب إربل، وهو ملك سني عُرف بالصلاح والجود، وكانت له آثار مشهودة في نصرة الدين وعمارة المساجد. أثنى عليه العلماء وعدّوا عمله من القربات، حتى صار الاحتفال بالمولد تقليدًا راسخًا بين المسلمين.
وحتى لو سلمنا جدلًا أن الفاطميين نظموا بعض المظاهر العامة للمولد، فما المانع في ذلك ما دام أصل العمل لا يخالف نصًا شرعيًا ولا قاعدة من قواعد الدين؟ فالمعيار في الإسلام بالفعل ذاته لا بالفاعل؛ إن كان موافقًا للشرع فهو مقبول، وإن كان مخالفًا رُد. وقد أجاز كبار علماء السنة الاحتفال بالمولد بعد عصور الفاطميين، بل ورأوه قربة مستحبة، مثل السيوطي وابن حجر والنووي وغيرهم. ومن ثم فإن إصرار المتشددين على ربط المولد بالفاطميين ليس إلا ذريعة واهية، إذ لا دليل شرعي صحيح ينهى عن أصل الفرح بميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم هناك من يهاجم شراء حلوى المولد باعتبارها عادة لا أصل لها. والحقيقة أن شراء الحلوى ليس عبادة في ذاته، وإنما مظهر اجتماعي للفرح، والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبادة قلبية مشروعة. قال تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس 58]. وما فضل الله ورحمته إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما فسر ابن عباس وغيره. ومن ثم فإن إظهار الفرح بالمولد بأي صورة لا يخالف الشرع، بل يدخل في دائرة المباح الذي يتحول إلى عبادة بالنية الصالحة.
إن هذه الدعاوى تكشف أن المشكلة ليست في المولد أو الحلوى أو المدائح، بل في عقلية التحريم التي لا ترى في الدين إلا وجهه الصارم الجاف. عقلية مغلقة تحرم نفسها أولًا من نور النبوة قبل أن تحاول حرمان الناس. وقد ظل المسلمون عبر قرون طويلة يحتفلون بالمولد بطرقهم المختلفة بالمدائح، بتوزيع الطعام، بشراء الحلوى، وحتى بمجالس العلم والذكر. كان ذلك كله تعبيرًا شعبيًا صادقًا عن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن رغبة في أن يكون الدين قريبًا من القلب والحياة.
ولعل ما لا يدركه المتطرفون أن المولد النبوي ليس مجرد عادة اجتماعية، بل شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد محاولات احتكار الدين. فحين يشتري الأب لأطفاله حلوى المولد، فإنه لا يوزع سكرًا فقط، بل يوزع فرحًا، ويغرس في قلوبهم محبة للنبي. وحين تجتمع الأسر على ذكرى المولد، فهي تعلن أن الدين ليس مشروع خوف بل مشروع محبة. وبهذا المعنى فإن المولد يذكّر الناس بأن الإسلام ليس عبوسًا، بل نورًا وبهجة.
إن المولد النبوي يكشف الفارق الكبير بين نور النبوة وظلال التشدد. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالرحمة، بينما المتشددون لا يعرفون إلا القسوة. النبي دعا إلى التيسير، بينما هم يصرون على التعسير. النبي علّمنا أن الفرح من الدين، بينما هم يحاولون طرد الفرح من حياتنا. وهنا يظهر جوهر الصراع هل يكون الدين مصدر أمل ونور، أم مشروع خوف وظلام؟
إن ذكرى المولد النبوي الشريف ليست مجرد طقس، بل امتحان متجدد هل نختار أن نعيش أنوار الرسالة، قيمها ومعانيها، أم نترك أنفسنا فريسة لظلام التطرف الذي لا يرى في الدين إلا التحريم؟ والحقيقة أن الناس في كل عام يجيبون بأنفسهم يفرحون، يحتفلون، يشترون الحلوى، ويرددون المدائح. أما المتشددون فيظلون خارج هذا النور، محرومين من أجمل ما في الدين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء رحمة للعالمين، نورًا يبدد الظلام.

تم نسخ الرابط