عاجل

تصعيد حذر: دلالات إعلان تركيا قطع العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل

وزير الخارجية التركي
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان

في خطوة تصعيدية وُصفت بأنها الأكثر تأثيرًا على مجرى العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في إطار جلسة طارئة انعقدت بالبرلمان في 29 أغسطس 2025، أن تركيا قطعت العلاقات التجارية مع إسرائيل بشكل كامل، إضافة إلى غلق الموانئ التركية أمام السفن الإسرائيلية، مع منع دخول الطائرات الإسرائيلية إلى أجوائها كنتيجة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

ووفقًا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، من خلال النظر إلى إطار العلاقات التركية – الإسرائيلية منذ إعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948، نجد أن أبرز ما يميزها هو التقلب الحاد والدائم، حيث تدرك التوافق أحيانًا ويطفو عليها التوتر أحيانًا أخرى. وبالعودة قليلًا إلى الوراء، نجد أن تركيا من أولى الدول المُعترفة بإسرائيل بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك في العام 1949.

وعلى الرغم من ذلك، بادرت الدولة التركية بتأييد الموقف العربي المناهض للعدوان الإسرائيلي سواء في 1956 أو 1967 مما نتج عنه توتر العلاقات بين الطرفين وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي الذي عاد من جديد بعد فترة انتهت في العام 1980، نتيجة لإعلان إسرائيل ضم القدس الشرقية.

وبناءً على ما سبق، يتطرق التحليل التالي إلى دوافع التصعيد التركي الأخير مع توضيح الانعكاسات المتوقعة على كلتا الدولتين، وما يصاحب ذلك تأثير سواء على الداخل التركي أو طبيعة العلاقات بين تركيا ودول الشرق الأوسط.

دوافع القرار

يمكن النظر في القرار التركي الخاص بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل في ضوء التغير الدائم في شكل العلاقاتبين الدولتين، إضافة إلى تعارض الأهداف في الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

(*) مصالح متضاربة: وصلت العلاقات التركية-الإسرائيلية قمة توترها في الآونة الأخيرة نتيجة لاتساع دائرة المصالح المتضاربة والذي ظهر بشكل كبير من خلال التنافس القائم على الأراضي السورية بين الطرفين، والذي يمكن ملاحظته من خلال اتفاقات التعاون العسكري بين تركيا وسوريا المُستهدفة تعزيز قدرات الجيش السوري، والضربات المتتالية المُوجهة من إسرائيل لسوريا بهدف إضعاف قدرة إدارة الشرع في السيطرة على الدولة،خاصة الجنوب السوري المطل على الحدود الإسرائيلية. وتُعد عملية الإنزال الجوي التي قامت بها القوات الإسرائيلية في 27 أغسطس 2025 بجنوب غرب العاصمة السورية إشارة جديدة وواضحة تستهدف التأكيد الإسرائيلي على عدم السماح بقيام دولة سورية موحدة من خلال خلق جنوب سوري منزوع السلاح تحت السيطرة الإسرائيلية وعد السماح لتركيا بالسيطرة على الجغرافيا السورية وسط مزاعم اكتشاف وتفكيك معدات وأجهزة تجسس تركية في منطقة الكسوة قرب دمشق.

وبناءًا على تصاعد التوترات، اتجه كلا الطرفين إلى رفع حدة التصريحات والذي كان واضحًا بشكل كبير من خلال تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أشار فيه إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك بالعام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى. وفي التعليق الرسمي الأول، أكدت وزارة الخارجية التركية رفضها التام لتصريحات بنيامين نتنياهو التي تستهدف استغلال المآسي الماضية لدوافع سياسية. ومن خلال النظر إلى درجة تصعيد التصريحات بين الطرفين، نجد أن ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن إلا تأكيدًا على الخلاف الذي يتفاقم يومًا بعد آخر.

وبالنظر إلى تداعيات التدخل العسكري المباشر لإسرائيل بالأراضي السورية، نجد أن ما وقع بأحداث السويداء أفرز توجه داخلي معارض لفكرة الدولة السورية المركزية، ومبني على خلق دولة لا مركزية تتمتع فيها الطوائف باستقلالية لا يمكن أن تشهدها في ظل النظام المركزي وصولًا لتصاعد المطالبات باستقلال السويداء.

وبالتالي، يمكن النظر إلى التوجه التركي الأخير كتصعيد تكتيكي محسوب يستهدف مجاراة التوغل الإسرائيلي بالداخل السوري، وما صاحب ذلك من تأثير مباشر على المصالح التركية التي ترفض فرض أمر واقع مبني على وجود دولة سورية ضعيفة وغير مستقلة، مما قد يزيد من مساحة التراشق بين الطرفين في حال استمرار تطور الأوضاعباتجاه مزيد من التصعيد.

(*) حرب غزة: ظل التقارب والتنافر يتواتران على العلاقات التركية الإسرائيلية حتى يومنا هذا، والذي شهد ذلك أيضًا محاولات إحياء التقارب بين البلدين قبل اندلاع هجمات السابع من أكتوبر والعدوان الإسرائيلي على غزة في ظل مساعي التهدئة التي سادت المنطقة، ولكن سرعان ما تبخر ذلك نتيجة للانتهاكات الإسرائيلية الصارخة لأبسط حقوق المواطن الفلسطيني في الآونة الأخيرة في ظل جرائم الإبادة والتجويع.

تداعيات التصعيد

أتى القرار التركي الخاص بتطبيق الحظر الكامل في ظلتزايد القيود منذ العام 2023، والذي قد يزيد من عزلة الدولة الإسرائيلية، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

(&) تصاعد القيود: تتميز العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل بالتعاون الوثيق على مدار الفترات المختلفة على الرغم من توتر وتذبذب العلاقات في كثير من الأحيان، والذي يمكن إيضاحه من خلال النظر في حجم التبادل التجاري بين البلدين على مدار الفترات المختلفة، ولا سيما قبل هجمات السابع من أكتوبر. فقدبلغ معدل التبادل التجاري بين البلدين في العام 2023 حوالي 7 مليارات دولار، مع بلوغ الصادرات التركية حوالي 5,5 مليار دولار، وبلوغ الصادرات الإسرائيلية حوالي 1,5 مليار دولار.

وكان لهجمات السابع من أكتوبر، وما تبعها من أحداث بالغ الأثر على حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي بدأت أولى مؤشرات تراجعه من خلال تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغانفي نوفمبر 2023،بوقف التبادل التجاري حال استمرت العمليات العسكرية الإسرائيلية. ومع استمرار سوء الأوضاع بقطاع غزة إضافة إلى التوغل الإسرائيلي بجبهات أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، توجهت تركيا إلى فرض قيود على الصادرات التركية من الحديد والألومنيوم والأسمنت والكيماويات في أبريل 2024، والذي لحقه إعلان وقف التبادل التجاري الكامل في مايو 2024، وذلك على الرغم من وجود بعض المؤشرات التي كانت تشير إلى استمرار حركة التجارة بين البلدين.

وأتى التصعيد الأخير بأغسطس 2025، والذي أعلن فيه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وقف التبادل التجاري بشكل كامل بين البلدين، إضافة إلى حظردخول السفن والطائرات الإسرائيلية لموانئ وأجواء البلاد، كدليل مباشر على تفاقم التوتر بين البلدين في ظل اتساع دائرة الخلافات الإقليمية، لا سيما بالأراضي السورية.

(&) زيادة العزلة: من المؤكد أن للقرار التركي الأخير انعكاسات على الحالة الاقتصادية للدولتين، خاصة إسرائيل التي تواجه ما يشبه عزلة دولية في الآونة الأخيرة. وبالنظر إلى ما تصدره تركيا لإسرائيل من حديد وسيارات ومنسوجات وآلات، نجد أن الحظر التركي يضع النظام الإسرائيلي في موقف حرج، بناءًا على الانعكاسات المتوقعة على الحياة اليومية للمواطنين في ضوء ارتفاع أسعار تذاكر الطيران وتكلفة الواردات، إضافة إلى إطالة مدة الرحلات الجوية التي من المفترض أن تمر بالأجواء التركية.

علاوة على ذلك، من المتوقع أن تؤثر تلك القيود على حركة التجارة بين إسرائيل وأذربيجان للمرة الأولى منذ بداية التراشق التركي- الإسرائيلي عقب “طوفان الأقصى”، لا سيما تجارة النفط الخام التي بلغت 1,76 مليار دولار في العام 2022، في ظل اعتماد الدولتين على خط (باكو- تبليسي- جيهان) المار عبر أراضي الدولة التركية، التي تعتمد على النقل البحري بهدف توصيله إلى إسرائيل. ويمكن رؤية ذلك في ضوء القيود الأخرى التي فرضتها الدولة التركية على حركة التجارة مع إسرائيل، مما قد يؤدي بدوره إلى زيادة الاحتقان الداخلي تجاه إسرائيل نتيجة لعواقب استمرار الحرب على حياة المواطنين.

(&) تصعيد متوقع: بالنظر إلى سلسلة التصريحات الإسرائيلية التي لحقت بالقرار التركي، ولا سيما تصريح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير الذي قال عبر منصة إكس “تركيا هي حماس”، نجد أن إسرائيل قد تواجه التصعيد التركي بتصعيد جديد يستهدف خلق مزيد من القيود حول الدور التركي المُستهدف لإيصال المساعدات لغزة، إضافة إلى زيادة حدة التدخل بالأراضي السورية والإضرار بمصالح الدولة التركية، مما قد يؤدي بدوره إلى تأجيج التوترات بين الدولتين.

تداعيات محتملة

من المنتظر أن يكون للقرار الأخير للدولة التركية الخاص بحظر التبادل التجاري بين البلدين انعكاس على طبيعة العلاقات بين تركيا ودول الشرق الأوسط من جانب، ومعادلة السياسة التركية الداخلية من جانب آخر، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

(-) اصطفاف حذر: في واقع الأمر لا يمكن إدراك ماهية التحركات المختلفة من دول الإقليمدون النظر في واقع التنافس التركي- الإسرائيلي المبني على طموحات توسعية سبق وأن استهدفت سيادة كثير من دول الشرق الأوسط كما هو الحال الآن داخل الأراضي السورية. وبناءً عليه، قد تُعزز الاصطفافات الحالية بين الجانب التركي وفواعل إقليميين أخرين في ضوء تحقيق هدف تحجيم النفوذ الإسرائيلي بالمنطقة، وإيقاف الانتهاك المستمر لسيادة دول المنطقة.

ومن خلال النظر في طبيعة العلاقات التركية مع كثير من دول الشرق الأوسط، وتنامي العلاقات بشكل ملحوظ مع مصرالتي كانت خير دليل على ضرورة السعي نحو توثيق التعاون الإقليمي في ضوء مواجهة الأزمات الحالية بالمنطقة، إضافة إلى زيادة درجة التوافق على القضايا الإقليمية العالقة في الآونة الأخيرة، وعلى رأسها الأزمة السورية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال التطلعات التركية التي عبر عنها رجب طيب أردوغان بعبارة “تركيا أكبر من تركيا”، تخلق فجوة تعيق بناء مزيد من التعاون على المستويين الإقليمي والدولي بين البلدين. ومن جانب آخر، تحاول أطراف “محور المقاومة” التي سبق وأن تضررت بشكل كبير نتيجة للهجمات الإسرائيلية، استغلال حالة عدم الرضا عن تصرفات إسرائيل من خلال التنديد الدائم بالهجمات الإسرائيلية التي تنتهك سيادة الأراضي السورية، إضافة إلى التأكيد المستمر على ضرورة تحقيق الاستقرار بالأرضي السورية بهدف وضع حد للتوغل الإسرائيلي بالمنطقة، والذي يتوافق بشكل غير مباشر مع رغبة الجانب التركي الذي يستهدف هو الآخر تحقيق مزيد من الاستقرار في الأراضي السورية.

(-) دعم داخلي: على الرغم مما يعانيه الداخل التركي من تنامي حضور المعارضة في الفترة الحالية، نتيجة لارتفاع السخط الشعبي من سياسات حكومة الرئيس أردوغان والمعركة المبكرة للانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير والذي ظهر من خلال ارتفاع معدلات التضخم وتراجع الأجور، كان للقرارات التركية الأخيرة تأثير واسع على المجتمع الذي بات أغلبه يؤمن بضرورة الاصطفاف خلف رجب طيب أردوغان كنتيجة مباشرة للتهديدات التي تواجه التطلعات التركية، والتي تتطلب توحيد الصف الداخلي منعًا لأي توتر قد يضع مستقبل الدولة التركية في مهب الريح.

وعلى الرغم من ذلك، أظهرت بعض رموز المعارضة عدم رضاها عن القرار التركي الأخير باعتباره لم يأتِ بجديد وإنما كان تكرارًا للقرارات التركية التي طالما أكدت وقف التبادل التجاري بين البلدين مع وجود مؤشرات تظهر استمرارها. علاوة على ذلك، لا يزال بعض أطراف المعارضة يؤمن بضرورة رفع درجة التصعيد من خلال دعم مزيد من الإجراءات المُستهدفة للتأثير على إسرائيل التي تمتلك هي الأخرى مشروعًا توسعيًا يهدد المصالح التركيةفي ظل تغير معادلة القوى بها بشكل واضح بعد حرب السابع من أكتوبر، ولا سيما بعد التراجع الكبيرلـ”محور المقاومة” وإيران بالتبعية.

وختامًا، يمكن النظر في التصريحات التركية الأخيرة باعتبارها تصعيد حذر نتج عن تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، والذي ظهر إما من خلال التحركات بالأراضي السورية أو في تصريحات المسؤولين بحكومة اليمين المتطرف. ولذلك ليس من شأن رد الفعل التركي الأخير تغيير سير العلاقات التركية الإسرائيلية بشكل كامل من خلال خلق حالة من التصعيد المتهور وغير المحسوب، وإنما تكثيف الضغط على إسرائيل، من أجل إيقاف الانتهاكات اليومية للاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إنكار احتمالية وجود عواقب للتصعيد المتبادل من خلال تصاعد تدهور العلاقات بين البلدين، التي قد تُواجه بتصعيد جديد من الجانب الإسرائيلي، مما يؤدي بالضرورة إلى تسريع وتيرة رد الفعل مع زيادة حدتها، والذي قد ينعكس فيما بعد على فرص التسوية السياسية بين البلدين في ظل تصاعد الخلافات إقليميًا.

تم نسخ الرابط