بعد صراع أكثر من 30 عامًا.. هل ينه اتفاق السلام الصراع بين أرمينيا وأذربيجان؟

ربما يفرض اتفاق السلام الذي توصلت إليه أرمينيا وأذربيجان، في 8 أغسطس 2025، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، العديد من التداعيات على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة أن منطقة القوقاز تعد منطقة نفوذ دولية تحظى باهتمام خاص من جانب العديد من القوى الإقليمية والدولية، لما لها من تأثير مباشر على توازنات القوى الاستراتيجية، وعلى التطورات التي تشهدها الأقاليم الأخرى المجاورة لها.
ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يعتبر إنجاز صفقة لتسوية الصراع المستمر منذ أكثر من 30 عاماً والذي مر بمراحل عديدة، فرصة للولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز حضورها في هذا الإقليم، لا سيما في ظل الانشغال الروسي بالحرب مع أوكرانيا، والتي لم تبرز مؤشرات تكشف عن اقتراب نهايتها، والانشغال الإيراني بالحرب مع إسرائيل وتعقيدات الملف النووي، والتي قد تتجدد اندلاع الحرب من جديد. لكن على الرغم من ذلك، إلا أنه مازال هناك جدل حول المعطيات الاستراتيجية الجديدة التي سوف تظهر في مرحلة ما بعد الانتهاء من الصراع المسلح بين باكو ويريفان.
اتفاق سلام أم اتفاق مصالح؟
يعتبر اتفاق السلام نقطة فاصلة في تاريخ الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وذلك لأنه يعتبر الأول من نوعه، حيث يتضمن الكثير من إجراءات التهدئة الحدودية بين الدولتين، لكنه يشمل أيضاً فرصاً اقتصادية قد تدر أرباحاً تجارية كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الأمر بالنسبة للأطراف المتصالحة، مما يمكن تسميته بـ"اتفاق مصالح"، بالإضافة إلى أنه يعتبر ورقة ضاغطة قوية على كل من روسيا وإيران اللتين تراقبان ما يحدث لتقييم ما يمكن أن يفرضه من نتائج على مصالحهما وأمنهما القومي. ويمكن إجمال دلالات إبرام الاتفاق على هذا النحو فيما يلي:
1- حظر نشر قوات من طرف ثالث على طول الحدود المشتركة، وهو ما يكشف عن رغبة أمريكية في تقويض نفوذ الدول والقوى الأخرى في الإقليم، خاصة روسيا التي نشرت قوات لها في المنطقة وتمتلك نفوذاً عسكرياً وأمنياً واسعاً في أرمينيا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، الذي أرسل بعثة لمراقبة انتهاكات وقف إطلاق النار، طالبت باكو مراراً بانسحابها.
2- حصول الولايات المتحدة الأمريكية على امتيازات قوية لتطوير ممر العبور "زانجيزور" لمدة 99 عاماً، وثمة تقارير تشير إلى أنها ستقوم بتكليف اتحاد شركات سيُطوّر خطوط السكك الحديدية والنفط والغاز والألياف الضوئية، بالإضافة إلى إمكانية نقل الكهرباء، على طول الممر الذي يبلغ 43 كيلومتراً.
والجدير بالذكر أن الممر يمتد عبر جنوب أرمينيا ليربط معظم أراضي أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان الآذري، المتاخم لتركيا الحليفة لباكو، وبالتالي سيعزز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية وسيساهم في زيادة صادرات الطاقة، خاصةً وأن جنوب القوقاز منطقة غنية بالطاقة وتتمتع بموقع جيوسياسي حساس على حدود روسيا وأوروبا وتركيا وإيران[1].
3- مطالبة أذريبجان بتغيير الدستور الأرميني لحذف عبارات تعتبرها مطالبة بأراضٍ أذربيجانية معترف بها دولياً، وهو ما يمثل نقطة تحول في العلاقات بين باكو ويريفان. وثمة مؤشرات توحي بإمكانية الاتجاه نحو تغيير الدستور، لكن هذه المهمة لن تكون سهلة، وربما تستغرق شهوراً إن لم يكن عاماً على الأقل من أجل إتمامها. وقد صرّح وزير العدل الأرميني بأن الوثيقة الجديدة ستكون جاهزة للاستفتاء عام ٢٠٢٦، إلا أن وزير الخارجية أكد أن بلاده لم تتعهد بأى التزام في هذا الصدد. وهنا، فإن ثمة انقسامات داخلية ما بين القبول والرفض لأي إملاءات من قبل أذربيجان، حيث يتعيّن لإقرار الدستور الجديد أن يكون بأغلبية الأصوات، وهذا الأمر يتسم بقدر من الصعوبة. وإذا فشل الاستفتاء الدستوري، فإن ذلك قد يكون معناه تجدد الصراع[2].
مواقف متباينة
رحبت معظم الدول باتفاق السلام الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية بين أرمينيا وأذربيجان كونه بادرة سلام يمكن أن تساهم في دعم الاستقرار في الإقليم. لكن ربط المصالح التجارية والخلافات السياسية بالاتفاق جعل منه خطوة غير مرضية بالنسبة للعديد من الأطراف الإقليمية المعنية بهذا الصراع وتطوراته، لما فيه من تهديد لمصالحها الاقتصادية وأمنها القومي، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- فرض اتفاق السلام تداعيات عديدة على إيران، إذ أنه قد يتسبب في زيادة عزلتها وذلك لأنه بتفعيل ممر زانجيزور سيتراجع بوضوح دور إيران كممر احتياطي لربط جنوب القوقاز بالعالم الخارجي، وبالتالي يقلل من نفوذها الاقتصادي والقدرة على فرض أية هيمنة سياسية عبر التحكم في خطوط النقل. كما أنه يضعف من قدرتها على استثمار موقعها الجغرافي كـممر إقليمي فضلاً عن أنه يقلّص حصتها من رسوم مرور الشحن.
إلى جانب ذلك، فإن الاتفاق سوف يساهم في تعزيز النفوذ الأمريكي بالقرب من حدود إيران، كما أنه قد يصاحبه تغير في خريطة النقل والطاقة بالمنطقة، وذلك لأن الممر المذكور في الاتفاق يربط خطوط الطاقة والسكك والأنابيب المحتملة باتجاه تركيا ثم أوروبا، ما يعزز قدرة باكو وأنقرة على تقديم بدائل لمسارات الطاقة الموجودة، وقد يستلزم هذا الممر إجراءات أمنية مثل حماية خطوط الطرق ما قد يؤدي إلى استدعاء شركات أمنية خارجية، وهو الأمر الذي تراه إيران تهديداً أمنياً واضحاً لها، إذا لم تتوافر له ضمانات.
2- سوف يمنح الاتفاق مزيداً من النفوذ لتركيا في الإقليم، حيث تسعى الأخيرة إلى زيادة إمكانات الربط التجاري مع آسيا الوسطى وأوروبا عبر خطوط أقصر، ومن ثم فإنها اعتبرت الاتفاق فرصة لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في أرمينيا، عن طريق مشاريع استثمارية أو شراكات اقتصادية.
3- سوف يساهم الاتفاق في تعزيز الحضور الغربي، ولا سيما الأمريكي، بالقرب من حدود روسيا، على نحو دفعها إلى التحذير من مخاطر التدخل الأجنبي في المنطقة، في إشارة إلى أنها لن تتخلى عن ترتيباتها الأمنية مع أرمينيا، أو صفقاتها التسليحية والاقتصادية مع أذربيجان، حتى لا يتراجع نفوذها في الإقليم.
4- ربما يكون للاتفاق دور في تأمين إمدادات الطاقة لأوروبا من خلال تأمين تدفق الغاز الآذري عبر تركيا نحو أوروبا، وبالتالي تقليص الاعتماد الأوروبي على روسيا في مجال الطاقة، بعد أن استخدمت الأخيرة هذه الورقة في إدارة علاقاتها مع أوروبا في أعقاب اندلاع الحرب مع أوكرانيا بداية من 24 فبراير 2022.
ختاماً، بقراءة المشهد الحالي، يمكن القول إن الموقف الروسي سيتسم بالهدوء النسبي تجاه هذا التطور الجديد الذي طرأ على مستوى العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا، إلى حين الانتهاء من الملف الأوكراني، وهو ما انعكس بشكل واضح على قمة ألاسكا التي جمعت الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فيلاديمير بوتين. في حين أن إيران سوف تتبنى سياسة أكثر تشدداً، لا سيما أن توقيع هذا الاتفاق جاء في لحظة غير مواتية بالنسبة لها، في ظل المعطيات الاستراتيجية الجديدة التي فرضتها الحرب مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وقبلها تراجع نفوذها الإقليمي كأحد انعكاسات الحرب التي تشنها إسرائيل في دول عديدة بالمنطقة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن.