قرار البنك المركزي المصري بخفض أسعار الفائدة بنسبة 2% ، لم يكن مفاجئًا في ظل تراجع معدل التضخم السنوي إلى 13.9% في يوليو، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عامين.
الخطوة جاءت لتعكس ثقة في استقرار الأسواق، وسعيًا لتحفيز الاستثمار وتشجيع النمو الاقتصادي الذي بلغ نحو 4.5% في 2024/2025.
لكن وراء هذه المؤشرات الإيجابية، يظل السؤال الحاضر: كيف ينعكس القرار على أصحاب الدخول الثابتة؟ هؤلاء الذين لا ترتفع دخولهم بنفس سرعة الأسعار، ولا يستفيدون مباشرة من السيولة المتدفقة في السوق.
أصحاب الدخول الثابتة… بين تراجع التضخم وتآكل المدخرات
انخفاض التضخم خبر مريح على مستوى الاقتصاد الكلي، لكنه لا يغيّر كثيرًا في واقع أصحاب الدخول الثابتة.
• فالمعلم أو الأستاذ الجامعي أو الطبيب الشاب لا يرى سوى راتب ثابت يزداد عبئًا أمام ارتفاع تكاليف الحياة.
• الأرملة أو صاحب المعاش يعيش على دخل شهري محدود ومدخرات صغيرة كانت الفائدة تمثل عائدًا يحافظ على قيمتها.
مع خفض الفائدة، تتقلص هذه المساندة المالية، فيتحمل أصحاب الدخول الثابتة فاتورة غير مرئية للإصلاح النقدي.
لماذا تمثل هذه الشريحة عمود الاستقرار؟
الطبقة الوسطى من الموظفين وأصحاب المهن الحرة إلى المتقاعدين ، ليست مجرد أرقام في جداول. هي المحرك الحقيقي للاستهلاك المحلي، وهي التي تحمل على عاتقها تعليم الأجيال، ورعاية الصحة، وإدارة المهن التي يقوم عليها المجتمع.
إضعاف هذه الفئة لا يضرها وحدها، بل يهدد التوازن الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل.
دروس من التجارب الدولية
كثير من الدول واجهت التحدي نفسه، لكنها اختارت سياسات تكمل خفض الفائدة بحماية اجتماعية:
• البرازيل ربطت مدخرات الأسر بالتضخم، لضمان الحفاظ على القيمة الحقيقية للأموال.
• المكسيك قدمت سندات حكومية مفهرسة بمؤشر الأسعار.
• بريطانيا اعتمدت آلية “التريبل لوك” لضمان زيادة المعاشات بما لا يقل عن التضخم أو نمو الأجور.
القاسم المشترك أن الإصلاح لا يُترك للسوق وحده، بل يُدار بوعي يحمي الطبقات الأوسع.
هذه التجارب لا تعني نقلها كما هي إلى مصر، لكنها تفتح باب التفكير في آليات وطنية خاصة تتماشى مع خصوصية الاقتصاد المصري. آليات تراعي شرائح أوسع: من أصحاب المعاشات والأرامل، إلى الموظفين والطبقة الوسطى من المعلمين والأطباء والمهندسين والمحامين
ما تحتاجه مصر الآن ..
خفض الفائدة خطوة صحيحة في التوقيت الحالي، لكن نجاحها يتوقف على وجود سياسات مكملة تضمن عدالة التوزيع .. مثل :
. برامج ادخارية اجتماعية موجهة مثل إصدار شهادات ادخارية بعوائد مرنة لأصحاب المعاشات وكبار السن.. الأرامل والمطلقات والفئات الأكثر تضررا من خفض سعر الفائدة على مدخراتهم
. مراجعة دورية للأجور والمعاشات مرتبطة بمعدلات التضخم.
. توسيع الحماية الاجتماعية باعتبارها جزءًا من معادلة الإصلاح، لا مجرد إجراء ثانوي.
. توسيع المظلة التأمينية: تعزيز برامج الدعم النقدي والتأمين الصحي والاجتماعي لتشمل أكبر عدد ممكن من أصحاب الدخول الثابتة
. تنويع أدوات الاستثمار الآمن: إتاحة أدوات استثمارية منخفضة المخاطر (مثل صناديق ادخارية حكومية أو سندات شعبية) لحماية وتنمية مدخرات الأسر
بهذه السياسات، يمكن لمصر أن تجمع بين تحفيز النمو الاقتصادي عبر خفض الفائدة، وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر حماية أصحاب الدخول الثابتة
الخاتمة: تحفيز النمو لا يكفي بلا حماية اجتماعية
خفض الفائدة قرار اقتصادي منطقي ومطلوب، لكنه يصبح غير متوازن إذا لم يترافق مع حماية لأصحاب الدخول الثابتة. فالمعلم، والطبيب، وأستاذ الجامعة، والموظف البسيط، هم العمود الفقري للاقتصاد والمجتمع.
النمو يمكن أن يتحقق بالأرقام، لكن الاستدامة لا تتحقق إلا بالعدالة. وإذا كان التحفيز مطلوبًا لضمان الاستثمار، فإن الحماية واجبة لضمان بقاء المجتمع متماسكًا.