تأثيرات الذكاء الاصطناعي الإيجابية والسلبية على المجال السياسي

في ظل التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده العالم، يتغلغل الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، فهو يؤثر على كافة مناحى الحياة. وفيما يتعلق بالتأثير السياسي للذكاء الاصطناعي، فقد شهد العالم تأثيرات مباشرة له على السياسة من زوايا عدة؛ الانتخابات والحروب وصنع القرار السياسي والسياسات العامة.
ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أضحى الذكاء الاصطناعي أداة سياسية هامة بفعل التطور التكنولوجي من خلال البيانات الكبرى Big data وتعلم الآلة Machine Learning وقوة الحوسبة Computing power. وكان ابتكار الشات جي بي تي Chat GPT بمثابة نقلة نوعية كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي. وسرعان ما ظهرت برامج أخرى مثل كوبايلوت Copilot وديب سيك Deep seek وجمناي Gemini.
بالإضافة إلى ذلك، تحولت العديد من القضايا السياسية والاجتماعية إلى إشكاليات تقنية يتم بحثها باستخدام التكنولوجيا الجديدة. ومما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي سوف يضحى إحدى أسلحة الدول وسوف يؤثر كثيراً على قوتها، ومن ثم على توازن القوى في العالم.
كما يقدم الذكاء الاصطناعي أدوات قوية لتعزيز صنع القرار في المجال الدبلوماسي والتنبؤ الاقتصادي والتحليل التجاري والحروب والانتخابات. وتؤكد الدراسات الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي أن النماذج التي يحركها تتميز بالدقة في التنبؤ وتقديم الرؤى الاستراتيجية التي تتجاوز المناهج التقليدية في صنع القرارات والسياسات.[1]
تطرح الدراسة عدداً من التساؤلات: هل نظم الذكاء الاصطناعي المنتشرة في العالم تمثل أدوات لتعزيز قوة الدول أم هي تهديد للنظم السياسية الديمقراطية؟، هل ستحل الآلة محل الإنسان في صنع السياسات؟، هل هناك حدود لما يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به؟، وما هي هذه الحدود؟
كما تتناول الدراسة تأثير الذكاء الاصطناعي على المجال السياسي من خلال طرح عدد من المفاهيم الجديدة مثل " قوة الذكاء الاصطناعي". بالإضافة لذلك، يتم استعراض عدد من الإشكاليات مثل تأثير الذكاء الاصطناعي على الحروب والدبلوماسية والعدالة والمساواة والانتخابات.
سياسات العلم والتكنولوجيا
قد يتصور البعض أنه لا يوجد تأثير للتكنولوجيا والتطورات العلمية على المجال السياسي. هذا التصور خاطىء لا شك.[2] فرغم نشر كتاب الفيلسوف مارتن هايدجر "عن التكنولوجيا" - الذي يناقش جوهر التكنولوجيا - قبل عقود، ولكن ما زالت الإشكاليات التي طرحها ذات تأثير في الوقت الحالي. على سبيل المثال، في تناوله لإشكالية الذاتية الإنسانية مع التطور التكنولوجي.[3] وفي كتاب "الشأن الإنساني" لحنا أرندت أيضاً، أشارت إلى أن تساؤل التكنولوجيا هو تساؤل سياسي لا محالة.[4]
ومع التطور التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي، يمكن طرح عدد من الإشكاليات الجديدة مع الذكاء الاصطناعي، مثل التأثير على تداول المعلومات والمعلومات المزيفة والحروب والصراعات المسلحة وإعادة النظر في مفهوم القوة وعلاقات القوة بين الدول وبين الأفراد داخل المجتمعات المختلفة.
قوة الذكاء الاصطناعيArtificial Intelligence Power
الذكاء الاصطناعي بصورة مبسطة هو تقليد الآلة للذكاء الإنساني. هو التكنولوجيا التي تمكن الآلات من إظهار القدرات الشبيهة بالإنسان مثل اتخاذ القرار المستقل غير المتحيز ومحاكاة الإبداع والذكاء البشري. فهو تقنية ذات قدرات لحل المشكلات تشبه قدرات الإنسان.
الآن الذكاء الاصطناعي بمثابة عنصر من عناصر قوة الدول التي تمتلك البنية التكنولوجية المتطورة. وفي السنوات المقبلة، سيشهد العالم تغييرات كبيرة في السياسة المعاصرة، ومن زاوية آخرى يمكن أن تؤثر التطورات في ديناميكيات السياسة على الذكاء الاصطناعي.
وتتسابق الدول الآن على الاهتمام بالاكتشافات العلمية الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد استخدمته العديد من الدول في المجال السياسي، على سبيل المثال في الانتخابات والحروب وفي تحقيق التنمية.
إن زيادة كفاءة وقدرة الذكاء الاصطناعي أثرت على مسار الانتخابات في العديد من الدول، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تم نشر دراسات في مجال الرأي العام وكانت هناك آراء من خبراء مختلفين حول الدور الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي في التأثير على أصوات الناخبين.
وقد ذكرت عدد من الدراسات أن برامج الذكاء الاصطناعي قد تُسهِم في نشر المعلومات المزيفة التي قد تؤثر على مسار الانتخابات. فيمكن أن يقوم الذكاء الاصطناعي بتضليل وسائل الإعلام الاجتماعي من خلال التشويش على أصوات الناخبين، كما يمكن أن يؤثر استخدام الذكاء الاصطناعي على نشر معلومات مضللة.
من زاوية أخرى، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤثر على الناخبين بحيث يقنعهم بعدم جدوى التصويت في الانتخابات على سبيل المثال. [5] ومن خلال استخدام برامج الذكاء الاصطناعي، يمكن إنتاج صور غير واقعية وفيديوهات مزيفة. فهو يُنتج مقاطع صوتية وصوراً وفيديوهات مزيفة تسمى Deepfakes وتُستخدم هذه الفيديوهات والصور في الحملات الانتخابية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، سنّت ستة وعشرون ولاية قوانين تقنن استخدام هذه الفيديوهات المزيفة. وبعض الولايات تبنت نهج منع هذه الفيديوهات أو الكشف عن حقيقتها. وقامت ولايتان "مينيسوتا وتكساس" بمنع نشر هذه الفيديوهات المزيفة قبل عدة أيام من عقد الانتخابات.[6]
تأثير الذكاء الاصطناعي على كافة الحقول الفرعية لعلم السياسة
تتأثر كافة الحقول الفرعية لعلم السياسة من فكر سياسي وفلسفة سياسية وعلاقات دولية ونظم سياسية، بالذكاء الاصطناعي. فمن زاوية الفكر السياسي، يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الحياة السياسية عدة إشكاليات مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي والذاتية الإنسانية وتأثير ما بعد الحداثة على القيم السياسية المتعارف عليها وتأثير الذكاء الاصطناعي على مفاهيم مثل القوة والعدالة والمساواة بين البشر.
ومن زاوية تأثير الذكاء الاصطناعي على مجال العلاقات الدولية، فقد أحدث الذكاء الاصطناعي تأثيراً على مجال العلاقات التعاونية بين الدول مثل التأثير على الدبلوماسية الشعبية على سبيل المثال، أو التأثير على مجال الحروب، أو في مجال النظم السياسية المقارنة من خلال التأثير على الانتخابات.
من زاوية أخرى، بدأت قضايا سياسية مثل التمييز وحقوق الإنسان والديمقراطية تتأثر أيضاً بالتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي. هناك تحديات سياسية ترتبط بالذكاء الاصطناعي، فسوف يثير الذكاء الاصطناعي إشكاليات سياسية عدة تتعلق بالعدالة و التمييز والديمقراطية والرقابة.[7] ويمكن أن يظهر شكل جديد من القوة هو قوة الذكاء الاصطناعي Artificial Power. فالذكاء الاصطناعي في جوهره هو سياسي بالأساس من خلال تناول العديد من الموضوعات السياسية التي تأثرت وسوف تتأثر به مثل عدم المساواة والديمقراطية والقوة، وما بعد الإنسانية.
ففي قضية العدالة على سبيل المثال، من المتوقع أن تؤثر برامج الذكاء الاصطناعي الحديثة على إجراءات العدالة والتحيز والتمييز. ومن زاوية الحريات، هناك قلق من الاستخدام المتزايد لبرامج الذكاء الاصطناعي في الرقابة على الحق في الخصوصية للأفراد. ومن زاوية الحقوق البيئية، قد يكون هناك تأثير سلبي لاستخدام الطاقة بشكل كبير في تخزين المعلومات على البيئة وتأثير الذكاء الاصطناعي السلبي على ما يُعرف بالنفايات الالكترونية.[8]
تأثيرات إيجابية وسلبية للذكاء الاصطناعي على المجال السياسي
للذكاء الاصطناعي تأثيرات إيجابية وسلبية على المجال السياسي. وقد أضحى الذكاء الاصطناعي واقعاً في حياتنا اليوم ويمكن أن يفيد البشرية كثيراً في تطوير المعارف العلمية وتحسين الرعاية الطبية والتأثير بالإيجاب على صنع القرار السياسي، ولكن أيضاً من زاوية أخرى سوف يؤثر بالسلب على إشكالية الذاتية الإنسانية وحقوق الملكية الفكرية على سبيل المثال أو على خصوصية الأفراد.
مع ذلك، فلا يمكن أن نستبعد الذكاء الاصطناعي لوجود سلبيات له، فقد أصبح واقعاً ولا يمكن أن يتم الاستغناء عنه. ولذا، لابد من التفكير في تعظيم الاستفادة منه وتقليل أضراره في المجال السياسي كما يتم التفكير في ذلك في المجال الصحي والتعليمي والثقافي.
1-الذكاء الاصطناعي وصنع القرار السياسي: يمكن أن يُسِهم الذكاء الاصطناعي في مساعدة القادة السياسيين في عمليات صنع القرار. كثير من برامج الذكاء الاصطناعي تم تصميمها من أجل التقليل من حدة عدم اليقين من نتائج القرار كما يُسهم في التنبؤ وفي دعم صانعي القرار وتطوير رؤاهم لتسهيل قراراتهم.
إن الاستخدام الكبير للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة مع تطوير برامج الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تيChat GPT وديب سيك Deep Seek وكوبيلوت Copilot سوف يؤثر بشكل كبير على صنع القرارات السياسية في العالم.
كما يمكن أن تغير خوارزميات الذكاء الاصطناعي في أثناء تنفيذ السياسات من عنصر أساسي من عناصر الحكم الديمقراطي تحديداً وهى: كيف يتم تشكيل القرارات الأساسية الخاصة بحياة المواطنين من خلال استخدام منصات وبرامج الذكاء الاصطناعي الحديثة. لذا من الضرورى أن تعكس طريقة تطوير ونشر نظم الذكاء الاصطناعي قيم وتفضيلات الجمهور. كما تطور الحكومات وشركات التكنولوجيا من المبادرات التي تُشِرك المواطنين في وضع قواعد للحوكمة باستخدام الذكاء الاصطناعي، ومن هنا تؤثر على المشاركة السياسية.[9]
بالإضافة لذلك، أشارت بعض الدراسات إلى أن خوارزميات تعلم الآلة يمكن أن تتخذ قرارات سياسية أفضل من البشر. وفي عصر وفرة المعلومات والابتكار التكنولوجي، ستكون القرارات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي أسرع وأكثر دقة ومن المتوقع أن تكون أكثر فائدة للمجتمع. وقد اقترح كثير من الباحثين استبدال السياسة التقليدية بهذه المناهج المبنية على الذكاء الاصطناعي.[10]
2-الذكاء الاصطناعي والحروب: تستخدم الدول الآن في حروبها أحدث التقينات ومنها استخدام برامج الذكاء الاصطناعي لتعزيز عملية صنع القرارات المتعلقة بالحروب. فللذكاء الاصطناعي تأثير على الحروب الحديثة. وقد أضحى الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي بمثابة سلاح أساسي في إطار سباق التسلح، الأمر الذي أثر على الديناميكات العسكرية بين الدول الكبري في القرن الحادي والعشرين. فينبغي إلقاء الضوء على الأسلحة الجديدة المعتمدة على برامج الذكاء الاصطناعي من الزاوية الأخلاقية والقانون الدولي الإنساني وسباق التسلح. وتركز بعض الدراسات على تبني نظريات الحتمية التكنولوجية والتبعية التكنولوجية لدراسة تأثير التطور التكنولوجي في مجال استخدام السلاح مع دراسة الآثار الأخلاقية لهذه الأسلحة من أجل حماية حقوق الإنسان في مناطق الصراعات المسلحة. مما لا شك فيه أن هناك سباق تسلح بين الدول الكبرى في مجال الأسلحة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي قد يهدد السلم والأمن الدوليين.[11]
وهناك علاقة وطيدة بين الذكاء الاصطناعي ومجال دراسات الأمن بدءاً من الحديث عن نشر المعلومات المزيفة بالإضافة إلى تكنولوجيا المراقبة. وتهتم الدول كثيراً الآن باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز قوتها العسكرية ولتطبيق التكنولوجيا الجديدة الخاصة بالذكاء الاصطناعي في مجال الدفاع والأمن والردع السيبراني والمراقبة وفي مجال اللوجستيات.
3-الذكاء الاصطناعي والديمقراطية: قد تؤثر التكنولوجيا الحديثة على الديمقراطية. فعندما يتم نشر معلومات خاطئة أثناء الانتخابات فيؤثر ذلك على التمثيل الديمقراطي ويحد من المساءلة الديمقراطية ويؤدي ذلك إلى تآكل الثقة السياسية والاجتماعية. كما انتشرت تهديدات جديدة متعلقة بالاستخدام الخطأ لمنصات الذكاء الاصطناعي.[12]
فبعد شهر من اختراع الشات جي بي تي Chat GPT، أضحى هناك نحو 100 مليون مستخدم شهري لمنصة الشات بوت Chatbot للذكاء الاصطناعي مما جعلها أسرع منصة في التاريخ من حيث الوصول لعدد كبير من المستخدمين بل أضحت الأكثر استخداماً.
أيضاً، قد تُفسِح منصات الذكاء الاصطناعي مجالاً للفاعلين أن يرسلوا معلومات خاطئة أو معلومات معينة لتضليل فئات معينة في المجتمع. كما من الصعب على المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي التمييز بين المعلومات التي يصنعها الإنسان والتي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي.[13]
4-الذكاء الاصطناعي والعدالة: شغل سؤال العدالة ذهن المفكرين السياسيين عبر الأزمنة المختلفة. نظر المفكرون إلى العدالة من منظورات مختلفة، فبعضهم ركز على العدالة التوزيعية والعدالة التصحيحية والعدالة الإجرائية والعدالة السياسية والعدالة الاجتماعية. ومن أبرز كتابات المفكرين السياسيين في العصر اليوناني التي تمحورت حول العدالة كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، ثم تجلى في كتابات أرسطو وكتابات المفكرين الغربيين والعرب في العصور المختلفة. ومع انتشار برامج الذكاء الاصطناعي الحديثة، من المتوقع أن تؤثر على إجراءات العدالة والتحيز والتمييز. ومن المتوقع أن يساعد الذكاء الاصطناعي في أن يحل محل صنع القرار البشري بما في ذلك المحاكم.[14] فيمكن أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي في التحقيق القضائي من خلال تسريع الاجراءات القضائية وتقليل معدل الأخطاء البشرية.[15]
فيما يتعلق بإشكالية التحيز، تعددت الدراسات التي أكدت أنه يمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي أن تتحيز ضد فئات بعينها داخل المجتمع مثل النساء، وذلك لأن برامج الذكاء الاصطناعي هي تقليد للذكاء الإنساني فكأنما تنقل التحيزات الإنسانية وتعيد إنتاجها مرة أخرى كما تعكس الصور النمطية. إلا أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل عدد كبير من البيانات حول الفجوة في الدخل بين الرجال والنساء من خلال برنامج الباب الزجاجي Glass door الذي أوضح الفروق في الأجل بناءً على النوع الاجتماعي. ومن ثم توفر برامج مثل "كوني آمنةً" BSAFE آليات لحماية النساء كما يقدَم برنامج بولتر Bolter.ai الكندي دعماً للناجيات من حوادث العنف والتحرش.[16]
خاتمة
بات الذكاء الاصطناعي يفرض نفسه ويتحكم في الإنسان تدريجياً رغم أنه من ابتكاره في الأساس. ولابد أن يتم وضع حدود للبرامج الخاصة بالذكاء الاصطناعي حتى لا تؤثر على الإنسانية بالسلب. فللذكاء الاصطناعي مزايا وعيوب، فيمكن أن يساعد في حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وحكم القانون، لكنه من ناحية أخرى يمكن أن يمثل تهديداً كبيراً من خلال استخدامه في التمييز ضد فئات معينة في المجتمع، والتأثير على العملية الانتخابية، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، والتعدي على الكرامة الإنسانية والاستقلالية والذات الإنسانية، واختراق الخصوصية، مع إمكانية الحصول على المعلومات، وقد حدثت بالفعل انتهاكات جمة من جراء استخدام الذكاء الاصطناعي في مناطق الصراعات المسلحة خلال الآونة الأخيرة.