نفوذ جيوسياسي… مكاسب تركيا من تمرير الغاز الأذري إلى الأراضي السورية

في ظل ما تعانيه سوريا من أزمات حادة بقطاع الطاقة، لا سيما الغاز الطبيعي الذي يساهم بشكل رئيسي في إنتاج الكهرباء، بدأت تركيا في الثاني من أغسطس 2025، تصدير الغاز الطبيعي القادم من أذربيجان إلى سوريا، بهدف تحجيم أزمة نقص الغاز في سوريا.
ووفقًا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، أتى ذلك في إطار اتفاق رباعي بين كل من أذربيجان وتركيا وسوريا إضافة إلى قطر التي دعمت هي الأخرى تلك الخطوة باعتبارها أحد مسارات إعادة إعمار البنية التحتية للطاقة بالدولة السورية.
وبناءًا على ما سبق، يتطرق التحليل في السطور القادمة إلى أهمية الجغرافيا السورية في استراتيجية الطاقة التركية، وانعكاسات الاتفاق الرباعي على موقع أنقرة كحلقة وصل تربط بين الدول المُصدرة والمُستوردة، مما ينعكس بدوره على النفوذ التركي بسوق الطاقة العالمي.
أمن الطاقة
في ظل كثافة الإنتاج الصناعي بالدولة التركية، تأتي الحاجة إلى توفير أكثر من بديل للطاقة، لاسيما في ظل وجود سوريا كدولة مجاورة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
شهد الاقتصاد التركي منذ الألفية الجديدة تطورًا هائلًا اتضح بشكل كبير من خلال تعزيز الإنتاج الصناعي على الرغم من عدم اعتبار الدولة التركية غنية بالنفط. وأدى الاعتماد التركي على الصناعة كأحد أبرز مصادر العملة الصعبة والمحرك رئيسي للاقتصاد، إلى بروز كثير من الصناعات التركية في الأسواق العالمية على غرار الصناعات التحويلية التي تساهم بحوالي 20% من الاقتصاد التركي، وصناعة النسيج والملابس الجاهزة التي من المتوقع أن تصل إلى 30 مليار دولار بالعام الحالي. علاوة على ذلك، تبرز الصناعات الدفاعية بالدولة التركية، والتي من المفترض أن تتخطى عوائدها 8 مليارات دولار بالعام 2025، كأحد أهم الصناعات التي تشهد تطورًا في الآونة الأخيرة نظرًا للتوترات الإقليمية والدولية التي حفزت كثير من الدول للاعتماد على تلك الصناعات، لاسيما صناعة المسيرات. وتحتاج تركيا سنويًا لما يعادل 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بينما تتسع بنيتها التحتية لخطوط الغاز لنحو 80 مليار متر مكعب سنويًا.
وعلى الرغم من محاولة الدولة التركية تكثيف التوجه نحو مسارات الطاقة المتجددة، لا تزال أنقرة بحاجة إلى تأمين الطاقة غير المتجددة نظرًا لأهميتها الكبيرة لما تحتاجه الصناعة التركية من ضخ دائم للموارد يستهدف تعزيز الإنتاج كما هو مخطط له. وفي ضوء ذلك، يمكن النظر إلى تجربة نقل الغاز الأذري إلى سوريا كمشروع يمكن البناء عليه بهدف تحقيق مشاريع إقليمية، مثل إنشاء خط غاز يربط دول الخليج الغنية بمصادر الطاقة، لاسيما قطر بالدول الأخرى التي تعاني من نقص في إنتاج الطاقة أو شراهة زائدة في التصنيع كما هو الحال بتركيا كسوق صناعي صاعد وبوابة لتصدير الطاقة للقارة الأوروبية.
شبكات العبور
يعطي الموقع الجغرافي المتميز للدولة السورية فرصة بالغة الأهمية لأنقرة بسوق الطاقة العالمي، وهو ما يمكن استعراضه في السطور الآتية:
(&) غاز أذربيجان: سعت تركيا إلى تعزيز التوجه القائم على توصيل الغاز الأذري إلى سوريا التي تعاني من أزمات حادة بالكهرباء. وأتى ذلك في ظل الدعم القطري الكبير الذي يستهدف هو الآخر إنجاح خط أذربيجان-سوريا من خلال الاعتماد على تركيا، وما ينتج عن ذلك من تهدئة للأوضاع الداخلية بسوريا وتحجيم التوترات القائمة من خلال تعزيز الشراكات الدولية والإقليمية التي تستهدف ليس فقط الحد من الأزمة السورية وإنما أيضًا معالجتها لضمان سوريا مستقرة ومستقلة.
(&) ممر الطاقة: بينما تعاني الدول الأوروبية من أزمات كبيرة فيما يخص إمدادات الغاز الطبيعي نظرًا للحرب الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من توترات، تعود فكرة تصدير الغاز القطري إلى أوروبا من جديد كمسار مختلف يحجم من أزمة الطاقة القائمة التي تعاني منها أوروبا. ومن الضروري كي يُكلل المشروع بالنجاح من وجود سوريا كدولة مستقرة وقادرة على تأمين إمدادات الغاز في ظل التوترات القائمة، مما يعزز بدوره من خلق توجه أوروبي يستهدف الإسراع في إعادة إعمار سوريا كممر محتمل للغاز إلى أوروبا وهو ما يتوافق بدوره مع الرؤية التركية التي تراهن على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وتماسك أراضيها، والذي يؤدي بدوره إلى التأثير بشكل إيجابي على استقرار تركيا.
(&) سوريا كنقطة التقاء: في ضوء ما فرضه الواقع الحالي من وقوع سوريا في فلك النفوذ التركي كفاعل بارز بالشرق الأوسط، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز والذي يمكن النظر إليه كنقطة عبور تستهدف تمرير مصادر الطاقة إلى القارة الأوروبية من خلال العمل على خلق اتفاقيات جديدة تستهدف خلق خطوط تمرير الغاز عبر دول الشرق الأوسط، لاسيما دول الخليج حتى الوصول لقارة أوروبا. ومع ما يواجه المنطقة من أزمات.
وفي حال تضافرت الجهود الإقليمية بهدف مد خط غاز من قطر إلى سوريا وصولًا إلى أوروبا عبر تركيا، من المؤكد أن الدولة التركية ستسعى إلى تعزيز مشاريع البنية التحتية بالدولة السورية وتعزيز الاستثمار فيها، إضافة إلى ما يصاحب ذلك من تكثيف للجهود الإقليمية لإعادة الإعمار بعد ما واجهته من أزمات.
ومن جانب آخر، على الرغم مما تعانيه العلاقات التركية الإسرائيلية من توترات، إلا أن فرص التعاون لا تزال قائمة في ظل وجود مساعي دولية دائمة تستهدف إيجاد تفاهم سوري إسرائيلي بغرض تهدئة الشرق الأوسط الذي يواجه اضطرابات كبيرة في الفترة الحالية. وبناءًا عليه، من الممكن الاعتماد على سوريا كممر يستهدف نقل الغاز الإسرائيلي عبر أوروبا مرورًا بتركيا، والذي قد يأتي في ضوء تفاهمات أوسع، لاسيما منح تركيا الصلاحية للتنقيب عن الغاز السوري بمنطقة شرق المتوسط. علاوة على ذلك، يأتي اتفاق الغاز بين أذربيجان وسوريا من خلال المرور بتركيا كمسار جديد قد يخلق مزيد من التهدئة بين الدولتين، من خلال الاعتماد على الدبلوماسية الأذرية المُستهدفة تهدئة التوترات بين البلدين في ظل وجود علاقات وطيدة بين أذربيجان وكل من تركيا وإسرائيل.
نفوذ جيوسياسي
لا يمكن اقتصار النظر في أهمية سوريا بنسبة لتركيا في كونها فقط تساهم في تعزيز أمن الطاقة التركي، وإنما أيضًا تعزز بشكل كبير من المكانة الدولية والإقليمية للدولة التركية، وهو ما يمكن توضيحه في السطور القادمة.
(&) سوريا كورقة ضغط: في واقع الأمر، كان للحرب الروسية الأوكرانية بالغ الأثر على معدل تصدير الغاز لأوروبا التي أدركت مخاطر الاعتماد شبه الكامل على مصدر وحيد لاستيراد الطاقة. ومن هنا سعت الدول الأوروبية إلى البحث عن منافذ جديدة تستهدف بشكل جماعي تلبية احتياجات القارة العجوز من الغاز الطبيعي أو على أقل تقدير تقليص الفجوة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. ومن هنا يأتي دور الدولة أنقرة باعتبارها ممر العبور الأول للغاز إلى القارة الأوروبية، من خلال مد خطوط من دول تقع على نطاقات جغرافية مختلفة إلى الدولة التركية ثم إلى أوروبا.

البنية التحتية للطاقة العابرة للأراضي التركية- تايلور وفرانسيس
وبالنظر إلى كافة البدائل المتاحة للقارة الأوروبية، يأتي مشروع مد خط يستهدف توصيل الغاز من تركمانستان إلى أوروبا من خلال المرور بتركيا كواحد من المسارات التي من الممكن أن تساهم في ترويض أزمة الطاقة بالقارة الأوروبية. إضافة إلى ذلك، تأتي تركيا كنقطة عبور غاز الشرق الأوسط الغني بالثروات إلى أوروبا مما يساهم هو الآخر في تقليل التكاليف ورفع معدل الاستيراد الذي يؤدي بدوره إلى تحجيم أزمة الطاقة التي تعاني منها الدول الأوروبية. ومن خلال الاستعانة بتجربة نقل الغاز الأذري إلى أوروبا عبر تركيا التي تتمتع ببنية تحتية صلبة، قد يؤدي ذلك إلى تحفيز الدول الأوروبية على التوجه نحو الاعتماد على تركيا كنقطة ربط بين أوروبا وكثير من الدول التي تتميز بوجود احتياطي كبير من الموارد الهيدروكربونية.
ويمكن النظر إلى سوريا هي الأخرى في ضوء التطلع التركي للتحول كنقطة عبور دولية تستهدف إيصال الغاز إلى القارة الأوروبية، وذلك من خلال الاعتماد على تعزيز التفاهمات القطرية الأوروبية بهدف إنشاء خط غاز يمر عبر الأراضي السورية مما يقلل التكاليف ويزيد الإنتاج، إضافة إلى احتمالية وجود مشاريع أخرى تستهدف نقل الغاز أيضًا عبر سوريا في وقت لاحق والتي من الضروري أن يصاحبها حالة من التهدئة بالشرق الأوسط، لاسيما فيما يتعلق بالوضع في سوريا.
وبناءًا على ذلك، يمكن إدراك رغبة الجانب التركي في التطلع نحو التحول إلى نقطة عبور للغاز إلى القارة الأوروبية من خلال أكثر من مسار، مما يؤدي إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية لأنقرة التي لا زالت تسعى إلى اكتساب أدوار أكثر تأثيرًا بالمنطقة، ولا سيما في الفترة الحالية التي شهدت انهيارًا لمحور المقاومة، وما تبع ذلك من محاولة أنقرة التموضع في المناطق التي كانت خاضعة للنفوذ الإيراني من قبل.
(&) أذربيجان كوسيط موثوق: تتمتع العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان بمتانة كبيرة نظرًا للتعاون المتبادل بين الطرفين في مجالي الطاقة والدفاع على مدار الفترات المختلفة؛ حيث تعتمد أذربيجان بشكل رئيسي على الصناعات الدفاعية الإسرائيلية لمجابهة التهديد الأرميني، إضافة إلى الاعتماد الإسرائيلي على النفط الأذربيجاني من خلال المرور عبر تركيا. وعلى الجانب الآخر، تتمتع العلاقات بين تركيا وأذربيجان هي الأخرى بمتانة كبيرة، بناءًا على اعتبار أن تركيا الممر الرئيسي الرابط بين أذربيجان والدول الأخرى، إضافة إلى الدور المحوري لأذربيجان بالنسبة لتركيا حيث يمكن النظر إليها كرابط بين الدولة التركية ودول أسيا الوسطى
وفي ظل سعي كل من تركيا وأذربيجان إلى تقليل أزمة الطاقة بسوريا من خلال مد خطوط غاز من أذربيجان، تأتي الضرورة الملحة لتحجيم نطاق التغلغل الإسرائيلي بالدولة السورية، نظرًا لما ينتج عنه من توترات قد تؤثر بشكل مباشر على خطوط إمداد الغاز بسوريا والذي ينعكس أيضًا بشكل مباشر على الدولة المًصدرة (أذربيجان). ومن هنا يأتي الدور الأذري من خلال الضغط على أقرب حلفائها (إسرائيل) بهدف تهدئة التوترات الإقليمية، لاسيما في ظل انتهاك سيادة الأراضي السورية، مما ينعكس بدوره على تعزيز قدرة السلطة الحالية تحت قيادة أحمد الشرع على فرض مزيد من السيطرة على أراضي الدولة السورية.
ومن جانب آخر، قد يتم الاعتماد على أذربيجان كوسيط بين تركيا وإسرائيل بهدف زيادة مساحة التعاون على حساب التنافر القائم على وجود خلافات إقليمية بين الطرفين حول كثير من القضايا الإقليمية. والذي ظهر بشكل كبير من خلال تأكيد جايهون بايراموف خلال زيارته إلى إسرائيل بشهر مايو 2025 على حاجة المنطقة لقنوات تواصل مفتوحة بهدف تفادي التصعيد، مع التأكيد أن أي تفاهم تركي- إسرائيلي سيساهم في استقرار الشرق الأوسط.
وختامًا، يمكن النظر إلى مشروع خط أذربيجان- سوريا في ضوء استراتيجية تركية أوسع تستهدف زيادة تموضع أنقرة بمنطقة الشرق الأوسط، في ظل وجود بوادر تشير إلى دخول المنطقة بمرحلة إعادة تشكيل تستهدف منها تركيا إحياء مشروعها الكبير، من خلال الاعتماد على تعزيز دورها بكافة الملفات، لاسيما ملف الطاقة باعتباره أولوية لكثير من الدول، وعلى رأسها دول القارة الأوروبية لما تواجهه من أزمات منذ الحرب الروسية الأوكرانية.
علاوة على ذلك، تشكل إعادة إعمار البنية التحتية للطاقة النواة الأولى لإعادة بناء سوريا وتعزيز استقرار نظامها الجديد، ومن خلال وجود تركيا كلاعب بارز ومؤثر، قد نرى فيما بعد توسيع لنطاق تعزيز البنية التحتية بالاعتماد على الحشد التركي للجهود الدولية، مما يزيد بالضرورة من المكتسبات التي من الممكن أن تحصل عليها تركيا من سوريا الجديدة سواء كانت سياسية أو اقتصادية.