كأننا أمام سوق عكاظ جديد، لا تُعرض فيه القصائد أو الحكمة، بل تُباع وصفات سحرية في زجاجات وأمبولات، تتنكر في ثوب العلم وتُسَوَّق على منصات “تيك توك” و”إنستجرام”. هنا تُباع الأحلام بأقراص ملونة، وهناك تُحقن الأجساد بمحاليل مجهولة، وبين الإعلان والعيادة ضاع المواطن أسيرًا لوهم الرشاقة السريعة وضبط القوام في أسبوعين.
لم يعد الأمر إعلانًا عابرًا أو دعاية مضحكة؛ نحن أمام غزو كامل للوعي. صورٌ وأصوات تبشّر بالحلول المعجزة، مدعومة بابتسامة طبيب يرتدي معطفًا أبيض ليمنح الوهم صكّ مصداقية. وما إن يستسلم المواطن لهذا الطُعم حتى يجد نفسه أمام مركز بلا رخصة، أو حقن لم تُختبر إلا على جسده. عندها يكتشف أن فاتورة “القوام الممشوق” قد تُدفع من عمره وصحته.
هذه ليست مجرد دكاكين نصب حديثة، بل قنابل موقوتة تهدد الصحة العامة. كم من شاب أُصيب بجلطة مباغتة، وكم من فنان أو شخصية عامة كاد يفقد حياته على أثر “إبرة مجهولة”، وكم من فتاة فقدت توازنها الهرموني تحت وطأة مستحضرات لا تعرف وزارة الصحة عنها شيئًا! الأخطر أن المواطن لم يعد يملك حرية خيار، بل صار أسير ماكينة ضغط إعلامية تُحاصره بإعلانات لا تنتهي، تُعيد صياغة معاييره للجمال، وتدفعه دفعًا نحو فوهة المخاطرة.
هنا تطرح الأسئلة نفسها بحدة:
• أين وزارة الصحة التي يفترض أن تُجيز أو تمنع، تُرخص أو تُعاقب؟
• وأين نقابة الأطباء التي يُفترض أن تصون أرواح الناس، بينما يطل بعض أعضائها من شاشات الهواتف ليشاركوا في تضليل العقول والأجساد؟
إن صمت هذه المؤسسات يجعل المواطن عاريًا أمام جشع الشركات ومراكز التجميل الوهمية. بل إن هذا الصمت يحوّل المجتمع كله إلى حقل تجارب كبير، تُدار فيه تجارة الموت تحت شعار “التنحيف” و”إذابة الدهون”.
والحق أن مصر، التي أطلقت مبادرات رئاسية غير مسبوقة في مجال الصحة العامة، من مكافحة فيروس “سي” إلى مبادرات صحة المرأة والكشف المبكر عن الأمراض، لا يجوز أن تترك هذه الجهود العظيمة تُجهض على حسابات “الإنستجرام”. فالدولة التي تبني وعي المواطن وتحميه، مطالَبة اليوم بأن تُغلِق هذه النافذة السوداء بالقانون والرقابة الصارمة.
فلنقلها بوضوح: من يترك صحة المصريين نهبًا لفوضى الحقن والعقاقير المجهولة، إنما يشارك في جريمة ضد حاضر هذا الشعب ومستقبله. والمطلوب اليوم قبل الغد أن ترتفع يد الدولة قوية، ليعرف تجار الوهم أن الجسد المصري ليس ملعبًا لتجاربهم، وأن صحة المواطن خط أحمر لا يُمس.