هناك وقائع تمرّ على المجتمع فتترك ندبة في القلب لا تلتئم، وهناك مـآسٍ تهزّ الضمير الإنساني كله لأنها تتجاوز حدود المنطق والقانون، وتصل إلى حدّ الخيــانة العظمى لكل ما هو مقدس في الحياة.
مـأسـاة وفاة أب وأطفاله الستة في قرية دلجا بمحافظة المنيا ليست حـادثًـا عابرًا، بل زلــزالًا إنسانيًا كشف إلى أي مدى يمكن أن تقود الغيــرة العمياء صاحبها إلى حافة الجنون، حيث لا يبقى للحب ولا للرحـمـة أي أثر.
في البداية، ظنّ الناس أن المرض كان السبب، حتى جاء بيان وزارة الداخلية ليمزق الغطاء عن الحقيقة البشعة: الزوجة الثانية وضعت السم في الخبز، ليس لتقتل الجسد فقط، بل لتقتل الروح، الأسرة، البراءة، والأمان.
قتلت بلا سكين، بلا دماء في العلن، لكنها تركت نزيفًا داخليًا في قلوبنا جميعًا.
جريمة ضد الإنسانية قبل أن تكون ضد القانون
أن تمتد يد امرأة إلى أطفال أبرياء، تضع لهم الموت على موائدهم في لقمة خبز صغيرة، فهذه ليست مجرد جريمة قتل، إنها خيانة مزدوجة؛ خيانة للثقة، وخيانة للإنسانية نفسها.
ماذا تبقى من إنسانيتنا حين تتحول الغيرة الزوجية إلى مشروع إبادة أسرة كاملة ؟ كيف يمكن لقلب حمل يومًا مشاعر حب أن يتحول إلى بئر من الحقد والانتقام؟
المأساة هنا ليست في الأداة، ولا حتى في الجريمة نفسها، بل في الغياب الكامل لأي وازع إنساني. لم تعد العلاقة الزوجية حرزًا للأمان ولا الأبوة حصنًا للأطفال، بل تحولت الحياة داخل بعض البيوت إلى حقل ألغام، قد ينفجر في أي لحظة بدافع الغيرة أو الغضب أو الجشع.
مبيد نادر.. وجرح لا يندمل
التحقيقات كشفت أن السم المستخدم ليس عاديًا، إنه مبيد حشري نادر لا يوجد له ترياق في العالم.
هذا التفصيل وحده يجعلنا ندرك أن الجريمة لم تكن فعلًا عابرًا، بل قرارًا متعمدًا بإنهاء حياة أسرة كاملة، بلا تردد ولا ندم.
الأطفال الذين رحلوا لم يكن لهم ذنب، لم يشاركوا في خلافات الكبار، ولم يفهموا صراعات الكبار.
لكنهم دفعوا الثمن كاملًا، فقدوا حياتهم، بينما تركوا للمجتمع صدمة لا تُحتمل وأسئلة معلقة في الهواء: إلى أي مدى يمكن أن يقودنا فقدان السيطرة على الغيرة؟
الإنسانية في اختبار
هذه المأساة ليست عن جريمة واحدة فقط، بل عن أزمة إنسانية أعمق، نحن نحتاج إلى مراجعة أنفسنا كمجتمع، كيف نسمح للخلافات الأسرية أن تتفاقم حتى تصل إلى حدّ سفك الدماء البريئة؟ أين دور الثقافة، والدين، والوعي في احتواء الخلاف قبل أن يتحول إلى كارثة؟
إن ما حدث في دلجا درس قاسٍ، لكن الدروس لا تنفع إذا لم توقظ الضمير، وإذا لم تجعلنا نعيد تعريف معنى الرحمة، ومعنى الأسرة، ومعنى الحب ذاته.
لقد مات الأطفال جسدًا، لكن القيم التي قُتلت معهم هي الأخطر، وإذا لم نُعد إحياءها في وعينا وسلوكنا، فإن المجتمع كله سيكون الضحية التالية.