عاجل

ضدّ الليبرالية الرمزية: دعوة إلى علم اجتماع تحاوري

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ضدّ الليبرالية الرمزية: دعوة إلى علم اجتماع تحاوري Against Symbolic Liberalism: A Plea for Dialogical Sociology، ضمن سلسلة ترجمان، وهو من تأليف ساري حنفي، وترجمة ياسر الزيات. جاء الكتاب في قسمين، ومتضمنًا سبعة فصول يجري فيها الاهتمام بالنقد الليبرالي لليبرالية، وتبيين كيفية تشكّل ليبرالية رمزية تنتهك مبادئ الليبرالية السياسية، مع الدعوة إلى مشروع ليبرالي تحاوري. ويقع الكتاب في 344 صفحة، شاملًا ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

يبيّن الكتاب أنه في عصر يتّسم بتزايد الاستقطاب، يعيد علماء الاجتماع كثيرًا إنتاج الظلم ذاته الذي يسعون لتحدّيه، من خلال اتخاذهم مواقف متجذّرة، ويرفضون التحاور مع من لا يتفقون معهم. ويقدّم المؤلف مفهوم "الليبرالية الرمزية"، ويوضّح التناقض الذي يتمثل في أن الأفراد يتبنّون المبادئ الليبرالية الكلاسيكية من جهة، وأنهم يتصرّفون بطرائق غير ليبرالية سياسيًّا من جهة أخرى. ويؤكد أن هذا التناقض ساهم في تفاقم أمراض الحداثة المتأخرة (السلطوية، والهشاشة الاقتصادية، والتدمير البيئي) التي تتكشف جميعها في الوقت الراهن في مناخ صار فيه النقاش المعقول يبدو مستحيلًا. ثمّة قوى كثيرة يمكن مساءلتها عن هذه الأمراض، إلا أن المؤلف سَلّط الضوء على قوَّتين رئيستَين: النيوليبرالية والرأسمالية العاطفية.

ومن خلال تحليل "نقاط التوتر" الأساسية في الاستقطاب المعاصر، ينتقد الكتاب تشويه الليبرالية الرمزية تعريفَ العدالة من خلال "ترشيق" مفهوم العدل الاجتماعي، وتضخيم كونية حقوق الإنسان، وخلطها بتصوُّر الخير، ثمّ طرح هذا التصوُّر التغَلُّبي قضيةً واحدةً وحيدةً لا تُجزَّأ؛ هي نفسها قضية العدل.

يمزج الكتاب الفلسفة السياسية بالأخلاقية وبالنقد السوسيولوجي، ليمضي قُدمًا في عصر أصبح فيه تبادل الأفكار أكثر إلحاحًا، وأكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى أيضًا. إن هذا الكتاب ليس نقدًا لحالة الاستقطاب فحسب، بل هو دعوة نقدية ملحّة إلى علم اجتماع تحاوري ولاستعادة الخطاب الفكري الهادف.

يتركّز النقاش المتعلق بالليبرالية الرمزية في علم الاجتماع، وهي ليست ظاهرة خاصة بحقل محدَّد، بل هي تغيُّرات تمتدّ إلى جميع قطاعات الحياة العامّة؛ إذ تشمل الإعلام والسياسة والقانون والتعليم. ولا تقتصر هذه التغيُّرات على دول الشمال الكوني، بل إنها تضمّ الجنوب الكوني أيضًا؛ ما يعكس شكلًا من أشكال التقارب العالمي، لا سيما في بيئات ما بعد الاستعمار.

في هذا الكتاب، لا ينطلق المؤلف من مشاهداته المحلية والإقليمية بشأن الحداثة المتأخِّرة وأمراضها فحسب، بل من أجندته البحثية أيضًا طوال خمسة أعوام أمضاها رئيسًا للجمعية الدولية لعلم الاجتماع في الفترة 2018-2023، التي أطلق فيها ثلاث دعوات: الأولى دعوة إلى علم اجتماع عالمي بمواصفات محدَّدة. والثانية دعوة إلى ربط علم الاجتماع بالفلسفة الأخلاقية. أمّا الثالثة، فهي دعوة، في كونغرس ملبورن بأستراليا، في حزيران/ يونيو 2023، إلى علم اجتماع تحاوري.

الليبرالية وأوجهها المختلفة

يجمع الكتاب بين التأمّلات والإحصاءات والمقالات الإثنوغرافية، وهو ينقسم قسمين. يضمّ القسم الأول تأمُّلًا نظريًّا في الليبرالية وأوجُهها المختلفة، ويعرض لمسارها التاريخي الممتدّ من روّاد الليبرالية الكلاسيكية الأوائل إلى الليبرالية السياسية لجون رولز. وفي الفصل الأول، جرى الدفاع عن الليبرالية بوصفها نظرية "رقيقة" تنطوي على بعض القيم التأسيسية، وتقديم تحليل نقدي للمراحل التي تعثّرت فيها بوصفها نظرية "سميكة" يتبنّاها الليبراليون وينظّرون إليها ويمارسونها. أما الفصل الثاني، فهو يتيح تحديد ملامح الليبراليين الرمزيِّين وتشريح التشوُّه المفاهيمي الذي أدخلوه على تعريف العدالة؛ وذلك نتيجة لتراجع مفهوم العدل الاجتماعي وتضخيم مفهوم الحقوق الكونية والسعي لفرض تصوُّر وحيد لمفهوم الخير في مواجهة المشروع الليبرالي الرمزي.

مشروع ليبرالي تحاوري

يدعو المؤلف، في الفصل الثالث، إلى مشروع الليبرالي التحاوري الذي يستكمل علم الاجتماع التحاوري، حيث يصبح هذا العلم تحاوريًّا حين يَفصل بين مستويَين من الالتزام بقضية المجتمع المدني: مستوى الوساطة أو المعيارية المخفَّفة، ومستوى المعيارية الصلبة. في المستوى الأول، يقدِّم علم الاجتماع بحثًا علميًّا مفيدًا في مناقشات العقل العمومي والحركات الاجتماعية. وفي هذا السياق، ثمّة معيارية مخفَّفة، لأنّ الأسئلة العلمية نفسَها تحمل افتراضات أخلاقية مسبَقة. وهذا المستوى يتضمن توفير المعارف للحكومات أو المنظمات التي قد لا نتفق دائمًا مع ما تفعله. وتلاحظ الممارسة السوسيولوجية في هذا الشأن عدم إمكانية التوفيق بين أساليب التفكير والتقاليد السياسية والثقافية والدينية المختلفة، لكنّها تدعو الفاعلين المختلفين إلى الانخراط معًا من خلال الحوار والبحث عن مواضع التوافق والالتقاء. وهذا لا يتوافق مع نظريات جون رولز ويورغن هابرماس فحسب، بل مع رؤية إميل دوركهايم المتعلقة بالتماسك الاجتماعي أيضًا (أو ما يسميه التضامن الاجتماعي) الذي تعزّزه الممارسة السوسيولوجية. وفي هذا المستوى، أي الوساطة، لا يجري التخلّي عن العدل الاجتماعي الشامل للجميع، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحقوق الرعاية الاجتماعية. وأمّا بخصوص مستوى المعيارية الصلبة، فإنّ علم الاجتماع لا يهتمّ بالمجتمع المدني فحَسب، بل يتخذ مواقف صارمة ضدّ القوى المتغلِّبة والفئات المهمّشة أيضًا، متمسِّكًا بمجموعة من القيم "العزيزة عليه".

وقد عبّر المؤلف عن قلقه حين يخلِط علماء الاجتماع في تحليلاتهم مستويَي الوساطة والمعيارية الصلبة، والأسوأ من ذلك حين يهملون الأولى ويعجزون عن التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة.

التعصب المجتمعي والحريات الأكاديمية

اهتمّ المؤلف، في القسم الثاني من الكتاب، بأربع مسائل، وقارن تناولها من جانب الليبراليين الرمزيِّين بالتناول البديل الذي يمكن أن يطرحَه المشروع الليبرالي التحاوري؛ فتناول في الفصل الرابع، مسألة التعصّب المجتمَعي عمومًا، لا سيما ما يتعلق بالحرية الأكاديمية، وشرح الآثار السلبية لخطاب التعصّب وثقافة الإلغاء ودورهما في تغذية الاستقطاب بين الليبراليين الرمزيِّين والمحافظين المتشدِّدين. فمع إسكات كلّ نقاش يخالف رأي أحد الطرفَين المتطرّفَين، ينقسم المجتمع بين قطبين يتشدّد كلٌّ منهما مع الآخر بالجمود والعقائدية. وفي وقتٍ يُفترض فيه أن تكون الجامعات مَواطن للفنون والآداب والنقاشات الإنسانية الكبرى، نجدها تتحرّك في اتجاهات معادية للنقاش وللمبادئ الليبرالية؛ وذلك بسبب اضمحلال استقلالها الذاتي والاستقطاب الشديد الذي تعيشه بهيئاتها التدريسية وجسمها الطلابي، فضلًا عن "عقيدة الإفراط في السلامة" التي سيطرت على الإداريين. وتتمثل المعضلة التي نعيشها في عصر الليبرالية الرمزية وسياسات الهُوِية المُفرِطة في أنّ الغياب التامّ للحرية الأكاديمية، والفرض المطلق لها، يؤديان إلى نوع من التلقين والواحدية السياسية. وهكذا، يظهر التوتّر واضحًا بين الحرية الأكاديمية ومبادئ "التنوع والإنصاف والاستيعاب". وتكمن المعضلة في كيفية جَعْل علم الاجتماع والعلوم ذات الصلة أكثر انشغالًا بالبحث في التهميش والمظالم التاريخية، من دون الوقوع في فخّ سياسات الهُوِية المُفرِطة أو حملات إلغاء الدعوة. فهذه الحملات تحديدًا تجعل الجامعات هدفًا لنيران السياسيِّين؛ ليبراليين رمزيِّين كانوا أم يَمِينيِّين شعبوييين يشكّكون في استقلالية المؤسسة الأكاديمية. ففي بعض الأحيان، يستخدم السياسيون سلطتهم في الحكومة أو البرلمان لتمرير قوانين غير ليبرالية، مثل قانون الدنمارك لعام 2021 الذي يعاقب على "النشاط السياسي الزائد في بيئات البحث".

علمانية الليبراليين الرمزيين

يتناول الفصل الخامس من الكتاب عَلمانية الليبراليين الرمزيِّين الأقرب إلى دينٍ مُخاصِم للأديان الأخرى (تحديدًا الأديان الأجنبية، مثل الإسلام في أوروبا). وقد ركز، على نحوٍ خاص، على التعامل الليبرالي الرمزي مع "مشكلة المسلمين" في فرنسا. فالمواطن الفرنسي الذي يرفض الانصهار في المجتمع القومي الفرنسي هو أشبه بمرآة للمجتمع الفرنسي، وهو مجتمع متكسِّر وانفعالي تكثر فيه المشكلات الاجتماعية الناجمة عن تشدّده في تطبيق المبدأ العَلماني. ومن ثمّ، كان الاقتراح المتمثّل في علمانية ليّنة ومتعدّدة الثقافات وغير تقسيمية. وهذه العلمانية ضرورية، بل لا غنى عنها، لكلّ المجتمعات. ففي المجتمعات التي يتحقَّق فيها الفصل بين الدين والدولة، يسمح هذا الإطار الجديد بقليل من "الوصل" بعد زمن طويل من تقطيع الأوصال: الوصل بين الدين والدولة، وبين الأخلاق والسياسة، وبين المُحاجَّات الدينية والعلمانية، ضمن المجال العام. ليست العلمانية، إذًا، إلّا آلية فعّالة - إلى حدّ بعيد - تسمح بتدعيم قيَم المشروع السياسي الليبرالي التحاوُري.

التنوع الجنسي والجندري

ميّز الفصل السادس قبول التنوُّع الجنسي والجندري (بمعنى التسامح وعدم التمييز) من الاحتفاء به (بمعنى الترويج له ودعمه واعتباره "خيرًا اجتماعيًّا"). فالانتباه إلى هذه المسائل الدقيقة ضرورة استراتيجية لتعزيز الحقوق والاعتراف المجتمَعي بالفئات الجندرية والجِنسانية المستضعَفَة. ومن الواضح أنّ أبناء الديمقراطيات الغربية يجنحون إلى اليمين إذا شعروا بأنّ الليبراليين الرمزيِّين يفرضون عليهم وعلى أطفالهم قبول السيولة واللاثنائية الجندرية بوصفها معيارًا جديدًا لإعادة تنظيم المجتمع، مع تقديم ذلك بوصفه العدل الضروري (أي باسم وقف التمييز ضدّ مجتمع الميم). وفي هذا السياق، تركّز الليبرالية التحاورية على هُوِية جنسية وجندرية متجذِّرة في الثقافة المحلية، مرتكِزة على الحدّ الأدنى من معايير حقوق الإنسان المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من الاتفاقيات الدولية. ومن هنا، يدعم مشروع الليبرالية التحاورية إبقاء النقاش مفتوحًا بشأن أفضل السبُل لحلّ النزاع بين مَن يريدون إعلان الميول والرغبات الجنسية في المجال العام ومَن يفضّلون حصر هذه المسائل ضمن الحيّز الخاص. وفي حين يُولي الليبراليون التحاوُريون احترامًا كبيرًا للحركات النسوية وحركات مجتمع الميم لدورها في تعزيز حقوق النساء والأقليّات الجنسية، فإنّهم يتوقّعون منها تسامحًا أكبر مع التباينات ضمن الحركة النسوية.

تقويض مرجعية الأسرة

يضمّ الفصل السابع نقدًا تفصيليًّا لليبراليين الرمزيِّين الذين يسعَون لتقويض مرجعية الأسرة؛ إذ يبيّن حالات الانتزاع القَسري للأطفال السويديين من أهاليهم، ودور الدولة السويدية وليبرالييها الرمزيِّين في فرض مبادئهم وأفكارهم المسبقة المتعلقة بالآباء والأمّهات. ويُظهِر عدم الشعور بحنين جارف إلى الأسرة التقليدية، لكنه لا يعتقد أنّه يجوز في هذا العالم النيوليبرالي ترك الأفراد "فريسة" للسوق أو الدولة، سواء كانت الدولة سلطوية أو شَعبوية أو ديمقراطية. فالأسرة بنية اجتماعية بارزة وقادرة على حماية الأفراد من توحُّش الدولة و/أو السوق، وخصوصًا عبر توفير الدعم المادّي والعاطفي للأبناء. ومن ثمّ، كانت إشكاليات كثيرة في استخدام الدولة النيوليبرالية مرجعيّتَها ومرجعية مدارسها العمومية ونظام خدماتها الاجتماعية لتقويض مرجعية الأسرة، بدلًا من البحث عن نموذج تكاملي بين المرجعيّتَين. لذلك، لا ينبغي التساهل مع تقويض المؤسَّسات، وخصوصًا ضمن المستوى الأول من التزام السوسيولوجيِّين بالمجتمع المدني؛ فهذه المؤسسات تظلّ "مهدًا للفضيلة" بحسب وصف بريان غريفيثس. وللأسرة تحديدًا دورٌ في تدعيم الاستقرار الاجتماعي، وفي التربية والتنشئة الثقافية، وفي التدريب على السلوك الأخلاقي.

تهدف فصول القسم الثاني من كتاب ضدّ الليبرالية الرمزية إلى تذكير بعض الليبراليين والتقدُّميِّين بأنّ كثيرًا من أفكارهم في حاجة إلى شيء آخر مختلف عن مسألة فرضها والإصرار على بداهتها، ومختلف أيضًا عن تحديثها وفقًا لآخر "الصيحات الثقافية".

تم نسخ الرابط