في كل مرة نقرأ فيها خبراً عن أطفال الشوارع، نشعر للحظة أن الأمر بعيد عنا، مجرد مشهد عابر على قارعة الطريق أو فيديو يتم تداوله على مواقع التواصل. لكن الحقيقة أن هؤلاء الأطفال هم جزء من حاضرنا ومستقبلنا، شاء البعض أم أبى. إنهم أبناء هذا الوطن، حتى وإن لفظتهم أسرهم أو غابت عنهم رعاية الدولة.
القصة التي كشفتها الأجهزة الأمنية تحت كوبري الأهرام ليست مجرد ضبطية، بل مرآة لمأساة أكبر. فتحة صغيرة تحولت إلى “ثقب أسود” يبتلع الطفولة بلا رحمة. أطفال بوجوه متسخة وعيون زائغة، أجبروا على مد اليد طلباً للصدقة، أو بيع مناديل بثمن الكرامة. بعضهم لا يعرف حتى اسمه الكامل، ولا يحلم إلا بوجبة ساخنة أو مكان آمن ينام فيه. أي قسوة أكبر من أن يُختزل الإنسان في أداة للتسول؟
إن معاناة هؤلاء الأطفال ليست خيارهم، بل نتيجة سلسلة من الانكسارات: فقر مدقع، أسر مفككة، غياب التعليم، واستغلال عصابات لا تعرف من الإنسانية سوى اسمها. والمأساة الأكبر أننا، كمجتمع، كثيراً ما نختار أن ندير وجوهنا بعيداً، وكأن تجاهلهم يلغي وجودهم.
لكن التجارب حول العالم علمتنا أن الحل ليس مستحيلاً. في البرازيل، أنقذت برامج الدمج آلاف الأطفال عبر مراكز تأهيل وتعليم. في الهند، جرى تمكين الأطفال من خلال التدريب المهني والدعم النفسي. وفي أوروبا، هناك قوانين صارمة تحميهم من أي استغلال. لماذا لا نستلهم هذه التجارب؟
الحل يبدأ بالاعتراف أن هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد “ملف اجتماعي”، بل قلوب تنبض وتستحق فرصة جديدة. نحتاج مراكز رعاية حقيقية، لا مجرد إيداع روتيني. نحتاج برامج تعليم مرنة تستوعب أوضاعهم، ودعماً نفسياً يرمم ما انكسر بداخلهم. نحتاج تشريعات تردع كل من يحاول استغلالهم، وأيدٍ تمتد إليهم بالرحمة لا بالرفض.
إنقاذ طفل واحد من الشارع ليس مجرد إنجاز فردي، بل هو انتصار لمجتمع بأكمله. فالطفل الذي يُنتشل من التشرد قد يصبح طبيباً، معلماً، أو حتى رجل أمن يحمي وطنه. أما الذي نتركه للشارع، فغالباً سيعود إلينا في صورة جريمة أو مأساة أكبر.
فلنغلق “الثقب الأسود”، ليس بالخرسانة فقط، بل بضمائرنا أيضاً. فالمجتمع الذي يترك أطفاله ينامون في العراء، هو مجتمع يحكم على نفسه بالفقر الأخلاقي قبل أي شيء آخر.