"الحمد لله لم اقف طيلة عمري أسفل راية بعينها حتى أدافع عنها، أو اتباكى عليها. ولم احمل غيرها ثم أسلمها إلى من يأتي بعدي.. كلكم مسئولون في مواقعكم، فاتقوا الله". بهذه الجمل الرشيقة، وجه ياسين زيدان حديثه الوداعي إلى زملائه في مصنع السكر.
حياهم بعدها، وانتقل بسرعة من مقعده على المنصة إلى جوارهم على الأرض. إنه وقت الطعام، وجاءوا بصوانيه العامرة من بيوتهم إكراما له، واحتراما للعشرة. وضعوها فوق موائد منخفضة الارتفاع أعدت بما تيسر من بواقي أخشاب الصناديق، وصفائح الصاج المجهزة لتعبئة العسل الأسود. تماما كما علمهم، دبروا أموركم بما تيسر، فلا توجد ميزانية!.
تنظر إلى الموائد فتظن أنها مجرد طبالي بدائية نظيفة أتوا بها أيضا من بيوتهم. ولكنها بدت بسيطة، وجميلة، وأدت الغرض. خدم الأستاذ ياسين زيدان لمدة 37 عاما متصلة في مصنع أرمنت للسكر. خدمته الفعلية 36، ووافقت الإدارة في القاهرة، مضطرة، على تمديدها لمدة عام واحد لا يزيد، ولو ليوم واحد. كان الرجل قد بدأ السلم من أسفله، وهو طالب في الإعدادية. عامل مناولة.
التحق بمدرسة الصنائع واستمر في العمل إلى أن حصل على الدبلوم وتقرر تعيينه. عام وراء آخر، ألم بكل أقسام المصنع العتيق: الفرز، الغسيل، الفرم، التجفيف، التبييض، التعبئة، التسخين... إلخ. وعندما وصل إلى أعلى السلم، قالوا له "عذرا لا تحمل شهادة جامعية".
يومها، رد عليهم بخطاب شديد اللباقة: "عذرا.. نسيت أن اكمل تعليمي. كنت باشتغل !". في ذلك اليوم، قبل 15 عاما كاملة، وقف عمال المصنع ضد قرار تعيين أي بديل لشقيقهم ياسين، حتى ولو كان ابن شقيقة رئيس مجلس إدارة الشركة.
محاسب شاب، أنهى خدمته العسكرية، وسقط بالباراشوت فوق رؤوسهم من العاصمة. لم يسبق له أن عاش في الصعيد ولو لأسبوع واحد. ولم يعمل في أي مصنع أو حتى ورشة. وعندما سألوا المسئول الكبير: لماذا؟. رد ببساطة مثيرة للاشمئزاز: تشجيع الشباب واجب وطني يا سادة.
ولكن !!. لا بأس. انتصر عمال المصنع ساعتها، ورضخت الإدارة ولو وقتيا. تمكن ياسين من تدبير أمور مصنعه المتعثر بمعرفته، وخبرته، وبتعاون الرجال لا "تنفيذا لتعليمات سيادته" بغض النظر عن الأسماء والمواقع. وبفضل الأجواء الإيجابية تلك، عبر المصنع عنق الزجاجة.
انتقل من الخسارة الثقيلة إلى التعادل أولا، ثم تحرك إلى الربحية البسيطة. بضعة آلاف من الجنيهات كانت بمثابة طوق النجاة الذي حمى المصنع من مقصلة التصفية. شعر العمال بالزهو نتيجة حصاد جهدهم، وأبدعوا. استأنفوا إنتاج سكر المكعبات بعد طول توقف، وصدروه إلى الخليج، وأمدوا مستشفيات أسوان، وقنا، وسوهاج، باحتياجاتها كاملة من الكحول الطبي.
وعلاوة على هذا كله، حولوا مصاصة القصب إلى ألواح من الخشب سدوا بها فراغا هائلا من احتياجات صغار النجارين. لا عبقرية في الأمر. إخلاص.