معضلة التسليم .. هل يسلم حزب الله سلاحه ويكشف عن مناطق تواجده؟

تكبد “حزب الله” منذ دخوله كجبهة إسناد لحركة حماس في حرب غزة أكتوبر 2023 العديد من الخسائر المادية والبشرية، حيث دمّر جزءًا كبيرًا من بنيته العسكرية، وتم اغتيال أبرز قياداته، وكان على رأسهم الأمين العام السابق للحزب “حسن نصرالله”. هذا الأمر فرض ترتيبات أمنية جديدة في لبنان والمنطقة بشكل عام، وزاد الوضع سوءًا بعد سقوط نظام “بشار الأسد”، الحليف الاستراتيجي للحزب، وكذلك عقب حرب الـ12 يومًا بين إيران وإسرائيل.
ووفقًا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، كل هذا خلق واقعًا جديدًا دفع الولايات المتحدة لمحاولة استثمار الوضع الراهن من خلال إعادة إبراز ملف سلاح “حزب الله”، ما دفع الحكومة اللبنانية إلى وضع هذا الملف المعقد على رأس أولوياتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وقيامها بإصدار قرارات بشأن تسليم سلاح الحزب وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.
وعليه، يطرح هذا التحليل التساؤل الرئيسي: هل من الممكن أن يلتزم “حزب الله” بتسليم سلاحه والإفصاح عن مناطق وجوده، أم أن هناك حسابات ومواءمات أخرى سيقوم بها الحزب، خاصة في ظل الظروف الإقليمية الراهنة؟
خريطة الأنفاق:
أعلنت قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان “يونيفيل” يوم الخميس 7 أغسطس عن اكتشاف شبكة واسعة من الأنفاق المحصنة التابعة لـ”حزب الله” بالتنسيق مع الجيش اللبناني، في محيط عدد من البلدات جنوب لبنان. هذه الأنفاق تحتوي على أسلحة وصواريخ وعددًا من المخابئ وقطع المدفعية وراجمات الصواريخ، إلى جانب مئات القذائف والصواريخ والألغام المضادة للدبابات والعبوات الناسفة الأخرى.
وقد توسع “حزب الله” في حفر الأنفاق بعد حرب 2006، وتصاعد اهتمام الباحثين بدراسة شبكة أنفاقه، إلا أن المعلومات الدقيقة عن طول وعمق ومساحة هذه الأنفاق بقيت محدودة. استنادًا إلى البيانات المتاحة، تتوغل الأنفاق لعشرات الكيلومترات داخل لبنان، ووفقًا لصحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، تتألف أنفاق الحزب من شبكة أخطبوطية تمتد حتى سوريا، بل وإلى إسرائيل أيضًا، مثل الأنفاق الهجومية التي عُثر عليها في ديسمبر 2018 أسفل الخط الأزرق.
وبحسب تقرير مركز “ألما” للأبحاث والتعليم الإسرائيلي لعام 2021، تربط شبكة الأنفاق بين ثلاثة مراكز عملياتية مهمة: مقر الحزب الرئيسي في “ضاحية بيروت”، والمواقع الدفاعية في “الجنوب اللبناني”، ومركز العمليات اللوجستية في “منطقة البقاع”.
وتنقسم الأنفاق بحسب مركز “ألما” الإسرائيلي إلى ثلاثة أنواع، هي: أنفاق سطحية تستخدم لنقل العناصر والمواد، ويمكن تدميرها من الجو. وأنفاق أكثر عمقًا تُستخدم كمستودعات للأسلحة والذخيرة. بالإضافة إلى أنفاق عميقة تصل إلى 60 مترًا تحت الأرض، تكاد تكون منيعة ضد الهجمات الجوية، كما في عملية استهداف مقر قيادة الحزب المركزي في سبتمبر 2024، التي أدت إلى استهداف الأمين العام “حسن نصرالله”.
تعد جبال وتلال لبنان بيئة مثالية لتشييد منشآت تحت الأرض، فأنفاق “حزب الله” أصعب في الوصول إليها وتدميرها مقارنة بأنفاق غزة، وهي مجهزة بغرف قيادة وتحكم، ومستودعات أسلحة وإمدادات، وعيادات ميدانية، ما منح الحزب حرية مناورة كبيرة تحت الأرض.
بقايا السلاح:
كان “حزب الله” يمتلك قبل حرب أكتوبر 2023 ترسانة ضخمة شملت صواريخ باليستية، وأخرى مضادة للطائرات والدبابات والسفن، إضافة إلى قذائف مدفعية غير موجهة، وقدرت ترسانته بحوالي 150 – 200 ألف صاروخ وطائرات مسيرة.
مع ذلك، تشير التقديرات إلى أن الحزب خسر نحو 70% إلى 80% من قدراته الصاروخية ومعظم منظومات الطائرات المسيّرة، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى ومراكز القيادة، فضلًا عن مخازن الأسلحة وشبكات الاتصالات. وحتى الصواريخ المتبقية من النوع بعيد ومتوسط المدى أصبحت عمليًا خارج الخدمة، نظرًا لمحدودية منصات الإطلاق الثابتة أو شبه الثابتة، مما يجعلها أهدافًا سهلة للرصد الجوي الإسرائيلي.
وعلى الرغم من إعلان الحزب في سبتمبر 2024 أن عدد مقاتليه يبلغ نحو 100 ألف عنصر، فقد تراجع هذا العدد إلى النصف بحسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية منذ بدء الحرب. كما استهدفت إسرائيل أبرز قادة الحزب وعددًا كبيرًا من كوادره ومقاتليه، بما في ذلك المسؤولون عن إدارة الصواريخ متوسطة المدى، ما شكل معضلة أمام الحزب لتنفيذ الهجمات الصاروخية بالمخزون المتبقي.
أفادت بعض التقارير الإسرائيلية بالوصول إلى قواعد الحزب على عمق 10 كيلومترات من الحدود الجنوبية. وبسبب تشدد إسرائيل في مسألة نزع السلاح بالكامل، توسعت الغارات لتشمل البقاع وضاحية بيروت الجنوبية. وتشير تقديرات عسكرية إلى أن عدد الصواريخ المتبقية لدى الحزب لا يتجاوز بضعة آلاف قصيرة ومتوسطة المدى، فيما بقيت الطائرات المسيّرة بنسبة قليلة مع محاولات إنتاج داخلي، أما السلاح الخفيف والمتوسط فلا يزال بحوزة عناصر الحزب، مع قدرة محدودة جدًا على إعادة التسليح نتيجة العزلة الإقليمية والضربات المستمرة.
كما أُغلقت شبكات أنفاق الحدود التي كان الحزب يستخدمها لنقل وتخزين السلاح، واعتُبر الطريق العسكري عبر سوريا مقطوعًا بعد إحباط السلطات السورية محاولات تهريب شحنات أسلحة. علاوة على ذلك، ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، عزز الجيش اللبناني بالتعاون مع “يونيفيل” انتشاره في جنوب البلاد وتسلّم مخازن ومنشآت عسكرية للحزب، وقام بتفكيكها ومصادرة محتوياتها.
رغم ذلك، يواصل الحزب إنتاج بعض الأسلحة محليًا في ورش داخل لبنان، خصوصًا صواريخ “كاتيوشا”، التي على الرغم من دقتها المحدودة، فإن إطلاق أكثر من 100 صاروخ منها في آن واحد قد يحقق تدميرًا كبيرًا للأهداف.
معضلة التسليم:
هناك مؤشرات تجعل من تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية بتسليم سلاح “حزب الله” وحصره بيد الدولة معضلة حقيقية، منها:
(*) يعتمد الحزب استراتيجية الحد الأدنى من التعاون، عبر تسليم السلاح الثقيل والدقيق فقط، مع الحفاظ على قوة ردع محدودة، والسعي لإعادة بناء قوته تدريجيًا، مع الحفاظ على الغموض بشأن مستقبل سلاحه.
(*) التخلي عن السلاح يعد بالنسبة للحزب إعلانًا عن انتهاء مشروعه وخيانة لمسار “الممانعة”، وتهديدًا مباشرًا لمكانته في البيئة الشيعية التي يعتبر نفسه حاميًا لمصالحها.
(*) الأزمة المالية التي يمر بها الحزب بعد الضربات الإسرائيلية والعقوبات الأمريكية، وتأخر دفع رواتب عناصره، جعل التمسك بالسلاح الورقة الأخيرة للمناورة سياسيًا وإقليميًا.
(*) رفض كتلة “الوفاء للمقاومة” والوزارة التابعة للحزب وحركة “أمل” للورقة الأمريكية حول حصر السلاح بيد الدولة، ما قد يؤدي لتعطيل عمل البرلمان والحكومة.
(*) صعوبة التعامل مع مناصري الحزب، الذين قد يلوحون بالشارع ضد أي مسار سياسي أو حكومي، مما يهدد الاستقرار الداخلي.
(*) الموقف الإيراني الرافض لنزع سلاح الحزب، باعتباره أداة إقليمية، إذ لا يمكن نزع السلاح إلا ضمن تسوية إقليمية شاملة بين إيران وأمريكا.
في النهاية يمكن القول إن، المشهد مليء بالتعقيدات، والمؤشرات الحالية لا تصب في صالح تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية بتسليم سلاح “حزب الله” وحصره بيد الجيش والدولة. فالحزب يمتلك أدوات ضغط داخلية وخارجية، تجعل من الصعب استسلامه للضغوط الداخلية والخارجية، ويظل سلاحه ورقة مهمة للمناورة في القضايا الإقليمية المختلفة، ما يضع الدولة اللبنانية أمام تحدٍ كبير لتنفيذ هذا القرار.