عاجل

لماذا يتمسك بوتين بالسيطرة على دونيتسك خلال مفاوضات وقف حرب أوكرانيا؟

بوتين وترامب وزيلينسكي
بوتين وترامب وزيلينسكي

منذ اندلاع العملية العسكرية الروسية الشاملة ضد أوكرانيا في عام 2022، احتل إقليم دونيتسك موقعًا محوريًا في الصراع، باعتباره ساحة مركزية في الصراع الجيوسياسي والعسكري بين موسكو وكييف.

وبالنسبة للكرملين، فإن دونيتسك لا يمثل مجرد جبهة قتال أو منطقة نفوذ عسكري جديد، بل يُنظر إليه كـ"جائزة استراتيجية" تحمل أبعادًا متعددة، تشكّل ورقة تفاوضية قوية تُستخدم لفرض شروط سياسية، فضلاً عن كونه عمقًا دفاعيًا يحرم أوكرانيا من أهم تحصيناتها الشرقية.

ترامب وزيلينسكي.. والوساطة الأمريكية في ملف دونيتسك

كشفت صحيفة فاينانشال تايمز، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدّم خلال لقائه مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في ولاية ألاسكا طلبًا واضحًا: انسحاب أوكرانيا من منطقة دونيتسك الشرقية كشرط أساسي لإنهاء الحرب. 

وأوضحت الصحيفة نقلاً عن أربعة مصادر مطلعة، أن بوتين أبدى استعدادًا لتجميد خطوط المواجهة في مناطق أخرى، مثل خيرسون وزابوريجيا، مقابل الحصول على السيطرة الكاملة على دونيتسك.

وتأتي هذه التطورات بعد قمة وُصفت بـ"التاريخية" جمعت الزعيمين في ألاسكا، حيث أعربت واشنطن عن رغبتها في إشراك القادة الأوروبيين في مناقشة مستقبل النزاع.

دونيتسك في معادلة السلام الروسي

يشير الطرح الروسي الذي كشف عنه لقاء ألاسكا بوضوح إلى أن الكرملين لا ينظر إلى دونيتسك من زاوية عسكرية فقط، بل كأداة ضغط مركزية تُستثمر في سبيل فرض تسوية سياسية تُشرعن المكاسب الروسية.

وتؤكد تسريبات القمة أن السيطرة على الإقليم تمثل أولوية استراتيجية لبوتين، حيث تعتبر نقطة التحوّل المحتملة التي قد تنقل الحرب من حالة الاستنزاف إلى مرحلة التفاوض السياسي، مما يسمح بإعادة رسم خريطة الصراع وفق شروط موسكو.

العقدة الدفاعية: "حزام الحصون" الأوكراني

منذ عام 2014، عملت أوكرانيا على إنشاء شبكة دفاعية متينة في دونيتسك، تُعرف بـ"حزام الحصون"، والتي تمتد عبر مدن استراتيجية مثل باخموت، أفدييفكا، وتشاسيف يار، حيث تعد هذه التحصينات الدرع الأساسي الذي يحمي الجبهة الشرقية لأوكرانيا.

وتمثل السيطرة الروسية الكاملة على دونيتسك ضربة قاصمة لهذه المنظومة، ما يُضعف قدرة كييف على حماية عمقها الدفاعي الشرقي ويُبعد تهديد المدفعية الأوكرانية عن مناطق حيوية تسيطر عليها روسيا.

تأمين "ممر آزوف": البوابة إلى القرم

بعد سقوط مدينة ماريوبول عام 2022، حصلت موسكو على جسر بري حيوي يربطها بشبه جزيرة القرم عبر ساحل بحر آزوف. ومع ذلك، تبقى هذه الممرات مكشوفة ومعرّضة للهجمات الأوكرانية ما لم تُؤمّن بعمق إضافي عبر دونيتسك.

السيطرة على الإقليم تتيح لروسيا تعزيز شبكات السكك الحديدية والطرق الحيوية التي تصل بين روستوف-نا-دونو ومليتوبول، مما يجعل من دونيتسك حجر الزاوية في مشروع "الاتصال البري الدائم" بين القرم والبر الروسي، وضمان عدم انقطاع الإمدادات اللوجستية.

الإرث الصناعي: ثروة لا تُقدّر بثمن

يمثل دونباس، الذي يشمل دونيتسك ولوهانسك، مركز الثقل الصناعي في أوكرانيا منذ الحقبة السوفيتية، حيث يحتوي على مناجم الفحم ومصانع الصلب والإسمنت التي كانت دعامة أساسية للاقتصاد الوطني.

ورغم الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية في المنطقة بسبب الحرب، لا تزال روسيا تعتبر هذا المورد الاقتصادي جزءًا جوهريًا من استراتيجيتها، سواء بهدف إنهاك الاقتصاد الأوكراني أو لتعزيز قدراتها الصناعية ضمن منظومتها الاقتصادية.

مكاسب عسكرية مباشرة

من الناحية العسكرية، يمنح إقليم دونيتسك روسيا عمقًا استراتيجيًا حاسمًا في الجبهة الشرقية. فالسيطرة عليه تُضعف قدرة أوكرانيا على استهداف الممرات الاستراتيجية، وتمنح موسكو حرية أكبر للمناورة على جبهات زابوريجيا ولوهانسك.

وتدرك القيادة الروسية أن كل تقدم في دونيتسك، وإن كان بطيئًا، يحمل آثارًا مضاعفة مقارنة بجبهات أخرى، نظرًا لارتباطه الوثيق بشبكات الإمداد الأوكرانية وبالروح المعنوية للقوات المسلحة في كييف.

البعد الرمزي والسياسي في الداخل الروسي

منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، سعى بوتين إلى تقديم نفسه كمدافع عن "الناطقين بالروسية" وساعٍ لاستعادة "الأراضي التاريخية" لروسيا، ليبلغ هذا التوجه ذروته بإعلان ضم دونيتسك ولوهانسك في عام 2022.

ومن هذا المنطلق، فإن تحويل دونيتسك إلى جزء دائم من الدولة الروسية لا يُعدّ فقط إنجازًا جغرافيًا، بل يُستخدم لتبرير الحرب أمام الرأي العام الداخلي الروسي، ولترسيخ السردية السياسية التي تقول إن ما جرى هو "تصحيح تاريخي". وبالتالي، فإن التراجع عن هذا الهدف سيُعدّ هزيمة داخلية يصعب على الكرملين تحمّلها.

الصدى الأوروبي والدولي

أما من المنظور الأوروبي والدولي، فإن مصير دونيتسك أصبح معيارًا لمدى قدرة الغرب على الدفاع عن مبادئ النظام الدولي، خاصة مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها.

فالقبول بواقع تفرضه القوة العسكرية الروسية في دونيتسك يُعد سابقة خطيرة قد تفتح المجال أمام أزمات مشابهة في مناطق أخرى حول العالم، ما يهدد استقرار النظام العالمي القائم، ولهذا، فإن الأوروبيين يعتبرون دونيتسك مسألة تتجاوز الجغرافيا الأوكرانية، إلى صميم معركة الردع وميزان القوى في القارة.

تم نسخ الرابط