"أم محمد".. سيدة تحدت الصعاب وأصبحت أيقونة سوق الأنصاري في السويس

في قلب مدينة السويس، وبين أصوات الباعة وروائح البحر الطازجة، تقف سيدة تجاوزت الخمسين عامًا لتروي للعالم قصة كفاح لا تُنسى. إنها أم محمد حمزة، أشهر بائعة سمك في سوق الأنصاري، والتي صارت رمزًا للجدية والإخلاص في العمل، وصورة حيّة للمرأة المصرية المكافحة التي تصنع مستقبلها بعرق جبينها.
طفولة قاسية صنعت امرأة قوية
لم تكن رحلة أم محمد سهلة منذ بدايتها. وُلدت في محافظة الإسماعيلية، وانتقلت مع والدتها إلى السويس وهي لم تتجاوز الثامنة من عمرها، بعد وفاة والدها. وجدت نفسها وسط حياة مليئة بالتحديات، لكنها لم تستسلم، بل تعلمت مبكرًا أن الاعتماد على النفس هو الطريق الوحيد لمواجهة صعوبات الدنيا.
وفي سن الثالثة عشرة بدأت أولى خطواتها العملية، حيث وقفت بجوار والدتها في تجارة السمك. ورغم صغر سنها، استطاعت أن تستوعب أصول المهنة بسرعة، وتتعلم كيف تختار الأسماك الطازجة وتتعامل مع الزبائن بصدق وشفافية.
من بائعة صغيرة إلى نجمة سوق السمك
بمرور الوقت، لم تكتفِ أم محمد بمساعدة والدتها، بل احترفت بيع الأسماك والجمبري السويسي والسوبيا والكاليماري. تميزت بجودة بضائعها وأمانتها، فأصبح اسمها مرادفًا للثقة. لم يكن هذا النجاح وليد صدفة، بل ثمرة سنوات طويلة من الالتزام بالمصداقية، ورفض أي ممارسات تتعلق بالغش أو الخداع.
اليوم، يعرفها كل مرتادي سوق الأنصاري، ليس فقط من السويس، بل من محافظات مجاورة يأتون خصيصًا للشراء منها. وقد تحولت إلى علامة بارزة في السوق، حيث يقترن ذكر اسمها بالجودة والجدية.
يوم يبدأ قبل الفجر
ورغم تقدمها في العمر، لا تزال أم محمد تحتفظ بروتين يومها الصارم. تبدأ رحلتها اليومية في الرابعة صباحًا، حيث تتوجه إلى الميناء لشراء الأسماك الطازجة مباشرة من الصيادين. ثم تعود إلى السوق وتبدأ في عرض منتجاتها لساعات طويلة وسط الزحام.
ورغم التعب، يظهر على وجهها دومًا ابتسامة صادقة تستقبل بها زبائنها. هذه البساطة والطيبة كانت سرًا في حب الناس لها، فهي لا تقدم فقط سلعة، بل تمنح تجربة مليئة بالإنسانية والود.
أم وأب في وقت واحد
وراء هذه المرأة القوية قلب أمٍ حنون تحملت المسؤولية بمفردها. فقد لعبت دور الأم والأب معًا بعد أن وجدت نفسها وحيدة في رعاية أولادها. لم يكن الطريق سهلًا، لكنها بعرق جبينها استطاعت أن تؤمن لهم حياة كريمة وتعليمًا جيدًا.
تحكي بفخر كيف وقفت إلى جانب ابنتها حتى زوجتها، وتعتبر أن رؤية أحفادها اليوم أكبر مكافأة على سنوات السهر والتعب. كل نجاح حققته لم يكن لنفسها فقط، بل لأولادها الذين أصبحوا مصدر فخر واعتزاز لها.
أيقونة نسائية في مهنة يسيطر عليها الرجال
على مدار أكثر من أربعة عقود ونصف، استطاعت أم محمد أن تثبت أن سوق السمك ليس حكرًا على الرجال. وجودها وسط المهنة الصعبة أضفى لمسة مختلفة، فقدمت نموذجًا للمرأة التي لا تعرف المستحيل.
الكثيرون من رواد سوق الأنصاري يرون فيها قدوة حقيقية في الجدية والإتقان، ويرددون أن اسمها أصبح رمزًا للنزاهة. فهي لم تكسر فقط الصورة النمطية عن المرأة في سوق السمك، بل حجزت لنفسها مكانة بارزة يصعب أن ينافسها فيها أحد.
رسالة لكل امرأة مصرية
قصة أم محمد ليست مجرد حكاية شخصية، بل رسالة قوية لكل امرأة مصرية بأن العمل الشريف يصنع المجد، وأن النجاح لا يقف عند عمر أو نوع. هي ترفع شعار الإرادة والصبر والضمير الحي، وتؤكد أن ميدان التجارة والعمل متاح لكل من يملك العزيمة.
لقد أثبتت أن المرأة قادرة على أن تكون عنصرًا فاعلًا في المجتمع، وأن توازن بين مسؤولياتها الأسرية وواجباتها العملية، مهما كانت التحديات.
سيدة صنعت من عرقها قصة ملهمة
في زمن يبحث فيه الكثيرون عن قدوة واقعية، تظهر أم محمد لتكون نموذجًا يُحتذى به. فهي لم تتوقف يومًا عن العطاء، ولم تسمح لليأس أن يطرق بابها، بل جعلت من حياتها ملحمة كفاح تُروى للأجيال.
ولذلك فإن حكايتها ستظل محفورة في ذاكرة سوق الأنصاري وأهل السويس، كدليل على أن المرأة المصرية قادرة دائمًا على تحويل الألم إلى أمل، والتعب إلى نجاح يستحق الاحترام والتقدير.