عاجل

كيف تبرر تركيا سياستها التوسعية في الدول المضطربة؟

الرئيس التركي أردوغان
الرئيس التركي أردوغان

تعكس ملامح سياسة تركيا الخارجية في العقد الأخير صراعا بين العمل على إيجاد دور بارز لها في المسرح الإقليمي والدولي والعمل من منطلق ماضيها الامبراطوري وحاضرها الطامح للنفوذ سواء في محيطها الحيوي او في القارة الإفريقية والمنطقة العربية. خاصة بعد فشلها مرارا في أن يتم استيعابها ضمن دول الاتحاد الأوروبي. 

وتجمع تركيا بين خصوصية الجغرافيا التي تربط الشرق بالغرب، والطموحات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتجاوز حدودها. لذلك فإن السياسة الخارجية التركية منخرطة في ملفات معقدة من القوقاز إلى شرق المتوسط والمنطقة العربية وفي القارة الافريقية. وتعكس تركيا اليوم هذه التأثيرات، لكنها تسعى أيضًا إلى تصوير نفسها كقوة مستقلة ذات هوية وطنية فريدة. 

وقد بنت تركيا شراكة مع الغرب من خلال عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتوطيد علاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فقد تزايدت خلافاتها معهم بشأن تراجعها الديمقراطي، وعلاقاتها مع روسيا، وتدخلاتها في الدول العربية والقارة الإفريقية التي أثارت هواجس لدى الدول العربية أيضا.

ووفقًا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، ومع تباين سياستها وتقلباتها، باتت تركيا تثير لدى العديد من الدول مزيجا من القلق والحذر و”الاعجاب” أحيانا المشوب بالريبة والشك. وهذه الازدواجية في الصورة والموقع والدور هي ما يدفعنا للتساؤل: لماذا تثير تركيا كل هذه الهواجس؟ لنجد أن تركيا تعمل من منطلق إرث وطموح إمبراطوري وتوظيف للإيدلوجيا واستخدام للاقتصاد وتعدد للنزعات والصراعات.

الإرث التاريخي والذاكرة الجماعية:

من القرن الثالث عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، جلبت تركيا، المعروفة آنذاك باسم الإمبراطورية العثمانية العظمى، استقرارًا نسبيًا إلى أراضيها في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط الخاضعة لسيطرتها. ومع ذلك، وعلى مدى قرون، أدى صعود أوروبا الحديثة إلى تآكل القوة العثمانية تدريجيًا.

وبحلول مطلع القرن العشرين، أدت الأزمات المتتالية لحروب البلقان والحرب العالمية الأولى وتداعياتها إلى تفكك الإمبراطورية ونسيانها من قبل معظم العالم طوال القرن التالي. ومع ذلك، يرى العديد من الأتراك أن الدول الممزقة والاضطرابات الواقعة في محيطها الجنوب، ما هو إلا الإرث المباشر للتدخل الغربي. وعندما انتخب الأتراك رجب طيب أردوغان رئيسًا للجمهورية عام 2003، رفع أردوغان شعار “لنجعل تركيا عظيمة من جديد”، مستغلًا المشاعر القومية الراسخة والحنين إلى العهد العثماني. بعد 22 عامًا، نجد أن أردوغان قد قام بتوظيف استراتيجيات وآليات برجماتية لإحياء مفهوم “تركيا عظيمة من جديد” من خلال سلسلة من الإجراءات العسكرية والاقتصادية والسياسية.

ويُشكل الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتركيا جوهر السياسة الخارجية لأردوغان. حيث يُمكّنها قربها من أوروبا وآسيا وأفريقيا من تغيير مجرى الأحداث في البلقان وشمال شرق أفريقيا والشرق الأوسط بأكمله لصالحها، مما يضمن مكانتها كقوة استراتيجية ذات ثقل في جميع المناطق. في خطابه عن حالة الاتحاد عام 2007، أقرّ الرئيس بذلك علنًا، قائلاً: “لقد حوّلنا الموقع الجغرافي لتركيا إلى أداة فعّالة في السياسة الخارجية”.

على صعيد أخر، لا يمكن فصل تركيا عن الدول العربية بموجب التاريخ، حيث هيمنت الدولة العثمانية على العديد من الدول العربية لقرون عدة، وكانت سببا في تخلف ركب العلم والنهضة الحقيقية عن العديد من الدول العربية التي احتلتها تحت عباءة الخلافة الاسلامية. كما أنها كانت ضمن معادلة التفاعلات التي أفرزت أمورا غيرت من معالم التاريخ والجغرافيا بالعالم العربي سواء من خلال التواجد الاسرائيلي أو باتفاق سايكس بيكو.

وتاريخيا تنظر تركيا إلى الموصل وكركوك بالعراق على أنهما امتداد طبيعي لهضبة الأناضول، فمنذ معاهدة “سيفر” والتي تضمنت فصل العراق عن الدولة العثمانية عام 1920 ورفضها مصطفى كمال أتاتورك حينئذ. ثم عقد اتفاقية جديدة في 1923 بين بريطانيا وتركيا لرسم الحدود الجديدة لتركيا مع جيرانها بالاعتماد على نتائج تصويت السكان في الأماكن المتنازع عليها، ولقد صوت سكان كل من الموصل وكركوك والسلمانية رسميا للبقاء داخل الحدود العراقية وقبلت تركيا نتائج الاستفتاء رسميا في 1926 مقابل منحها 10% من عائدات النفط المستخرج من كركوك والموصل لمدة 25 عاما.

وفي سوريا، أخذت تركيا لواء الإسكندرون، وهناك سعي حثيث من جانب تركيا لكي يكون لها سيطرة كاملة على منطقة الشمال السوري، من خلال إقامة منطقة آمنة، يمهد لها بحظر جوي، ومن ثم يجري اقتطاعها (وضمها) إلى تركيا، كتمهيد للسيطرة على حلب وجعلها جزء من الأرض التركية ( وذلك وفق رؤية من بعض المهتمين بالشأن التركي والعربي ).

ولقد بدأت تركيا تبني سياسة ناعمة مع العرب، بعد أن يئست من عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، كما حافظت على علاقات حميمة مع إسرائيل، ، في الوقت الذي بدت أنها مع غزة المحاصرة ومع الصومال المنهك، لكي تكسب موطئ قدم لها في الوطن العربي.

على صعيد أخر، لا يمكن غض البصر عن الدور التركي فيما يتعلق بمصر وموقفها من استيلاء الاخوان على مقاليد الحكم في مصر، ثم موقفها من ثورة 30 يونيو 2013 في مصر ، واستضافتها لعناصر نشطة وقيادية للإخوان المسلمين في تركيا وفتح قنوات ومنصات لتمكينهم من الهجوم على الدولة المصرية. أيضا لا يمكن تجاهل الدور التركي في ليبيا، ودعم ميليشيات محسوبة على التيار الإخواني وتيار الاسلام السياسي داخل ليبيا. فضلا عن وجود قاعدة عسكرية كبيرة تركية على الأراضي القطرية.

أما فيما يتعلق بالتقارب مع المملكة العربية السعودية،  فإنه يمكن توصيفه بالتقارب البرجماتي الحذر والذي يحركه بشكل رئيسي ” الدور الإيراني” في المنطقة، ولذلك فهو يشهد فترات انفراج عالية جدا حينا، ثم ينخفض حينا أخر. وفي إطار البرجماتية التركية، استدارت السياسة الخارجية التركية للعودة مرة أخرى إلى سياسة تصفير المشكلات مع بعض الدول العربية ولكنها على نحو ينتابه بعض الريبة، رغم القيام بزيارات متبادلة عالية المستولا وتوقيع اتفاقيات لتعزيز التعاون المشترك.

الطموحات المتأرجحة:

تعكس تحركات تركيا في السياسة الخارجية خلال السنوات الأخيرة سعيًا دؤوبًا لإعادة تعريف دورها الإقليمي والعالمي. فمن تدخلاتها العسكرية في سوريا إلى انخراطها المتزايد مع دول البريكس، تكشف أفعال أنقرة عن استراتيجية أوسع نطاقًا. تتحدى هذه الطموحات النظام الدولي.

لقد جعل خطاب أردوغان العثماني الجديد هذه الجهود تتجاوز مجرد استعراضات قوة براجماتية. فرسالته الشعبوية والقومية تلقى صدىً عميقًا لدى الأتراك الذين يرون بلادهم القوة المهيمنة الطبيعية في المنطقة. ومن خلال هذه الرواية، يُقدم أردوغان تركيا على أنها الحامي الشرعي للمسلمين من غزة إلى مقديشو، مما يعزز شعبيته محليًا ويبني قاعدة ولاء من الحلفاء الإقليميين.

فلقد رفعت تركيا بمجيء أردوغان إلى الحكم شعار تصفير المشكلات سواء مع المحيط العربي او في المتوسط. إلا أن سياسة تصغير المشكلات ما لبست ان تبددت. فعلى سبيل المثال، يؤكد انخراط تركيا في سوريا نهجها التدخلي المتزايد في المنطقة العربية. فمن خلال دعمها النشط للجماعات الجهادية والإرهابية، ورسّخت أنقرة مكانتها كلاعب رئيسي في صراع السلطة السني الشيعي. يذكر أن هذه الاستراتيجية تتماشى مع رؤية أردوغان لمجال نفوذ عثماني جديد، حيث تحاول تركيا تولي دورًا قياديًا في العالم الإسلامي السني.

وعلى صعيد أخر، عززت حكومة أردوغان علاقاتها مع روسيا، متحديةً بذلك تماسك حلف الناتو ومصالحه عبر الأطلسي، ويتجلى ذلك في شرائها نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400 – وهي خطوةٌ أبعدت حلفاء الناتو وأثارت مخاوف أمنية بشأن مخاطر التجسس على القواعد الأمريكية في تركيا.

وقيام تركيا بتزويد أوكرانيا بأسلحة خفيفة، وهو ما يبرز جهود أردوغان للالتفاف على العقوبات الروسية والعمل في ذات الوقت على تحقيق التوازن. تسعى هذه الاستراتيجية التاريخية للعب بالورقة الروسية إلى الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع موسكو مع السعي في الوقت نفسه إلى دور مستقل في النظام العالمي.

كما يعكس اهتمام تركيا بالانضمام إلى مجموعة البريكس تطلعاتها الأوسع لتحدي الهيمنة الغربية. وقد صاغ أردوغان هذا الالتزام كالتزام “بتنوع المناهج والهويات والسياسات في النظام الاقتصادي العالمي”. ومع ذلك، فإن هذا الخطاب يخفي هدفًا أكثر استراتيجية: الاستفادة من موقع تركيا الفريد بين الشرق والغرب لتعظيم نفوذها الجيوسياسي. كما تؤكد هذه الخطوة على العودة إلى المنطقة الطبيعية، وهو ما يدل على نظام إسلامي إمبراطوري. يدعو بعض أعضاء مجموعة البريكس إلى نموذج “دولة حضارية”، يُعطي الأولوية للسيادة والهوية الثقافية على الأعراف الديمقراطية الليبرالية. تتوافق هذه الرؤية مع رؤية أردوغان العثمانية الجديدة للعالم، والتي تُؤكد على الطابع الاستعماري المميز لتركيا .

عسكرة العلاقات الثنائية:

في المنطقة العربية تحديدًا، تعمل تركيا على التحرك في الأوقات المهمة. فبينما كانت تركيا حاضرة في المنطقة قبل 7 أكتوبر 2023 بوقت طويل، يبدو أن القادة في أنقرة قد استغلوا حرب إسرائيل المستمرة ضد وكلاء إيران كفرصة لتوسيع نفوذهم. وفي سوريا، بعد 14 عامًا من الحرب الأهلية، ساهم الدعم التركي لجماعة تحرير الشام الإسلامية المسلحة في القضاء على نظام الأسد بشكل حاسم في ديسمبر من العام الماضي. منذ ذلك الحين، ورغم تصريحات الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بأنه “لن نسمح باستخدام سوريا كنقطة انطلاق لهجمات على إسرائيل أو أي دولة أخرى”، فمن المرجح أن يوافق على استضافة قواعد جوية تركية في البلاد خاصة في توقيع الاتفاق الأخير بين كل من تركيا وسوريا.

في ليبيا، ساعد الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني خلال الحرب الأهلية الليبية الثانية، التي استمرت من عام 2014 إلى عام 2020، في تأمين وصول حيوي إلى موارد الطاقة وحقوق تقسيم المناطق البحرية الحصرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد. في عام 2022 وحده، أبرمت شركات تركية عقودًا بقيمة 5 مليارات دولار في قطاع البناء الليبي. وفي أغسطس من العام الماضي، حصلت تركيا على عقد إيجار لمدة 99 عامًا في مدينة الخمس الساحلية الشمالية الشرقية لإنشاء قاعدة عسكرية هناك، مما عزز سيطرتها على المياه الإقليمية وأمن سفنها التجارية.

في الصومال، منحت اتفاقية الأمن البحري التركية المبرمة في فبراير 2024 تركيا حقوقًا حصرية لتسيير دوريات على طول ساحل البلاد الذي يمتد لأكثر من 3000 كيلومتر، والذي يقع بجوار مضيق باب المندب، أحد أكثر المياه حيويةً من الناحية الاستراتيجية في الشحن العالمي. ومع مرور أكثر من 12% من التجارة العالمية عبر المضيق، تُوسّع هذه الاتفاقية فعليًا نطاق السيطرة التركية على ممر بحري حيوي، مما يعزز نفوذها عبر البحر الأحمر والخليج العربي.

ومن ثم، هناك توسع للنفوذ العسكري التركي ليشكل شبكة استراتيجية. تُدير تركيا ما لا يقل عن 12 قاعدة عسكرية خارجية، بما في ذلك في قطر والصومال وشمال قبرص، كما أبرمت اتفاقيات تعاون دفاعي مع الأردن وأذربيجان وباكستان وليبيا وتشاد. في العراق وحده، تُجري القوات التركية عمليات منتظمة من أكثر من 30 موقعًا متقدمًا، مُرسخةً بذلك عقيدة عسكرية مُنتشرة مسبقًا تُنافس القوى العظمى التقليدية.

استخدام الاقتصاد لبسط النفوذ:

تسعة تركيا إلى توظيف الدبلوماسية الاقتصادية بما يخدم مصالحها وتكوين نفوذ طويل الأجل من خلال عقد اتفاقيات تجارة حرة مثل الاتفاقيات المبرمة مع المغرب وتونس وموريتانيا والسودان وزيادة حجم الصادرات التركية من المنتجات الصناعية والآلات والسلع الاستهلاكية إلى الأسواق الافريقية. وذلك تسهيل استيراد المواد الخام والمعادن بأسعار تنافسية لدعم الاقتصاد والصناعات التركية.

كما تقوم شركات المقاولات التركية مثل شركة “ميماك يابي ميركيزي” في تنفيذ مشروعات طرق وسكك حديد ومطارات في إثيوبيا وتنزانيا والسنغال، وهو ما يمنح تركيا نفوذ في الموانئ والمطارات التي تسهل وصول بضائعها. بالإضافة إلى ذلك، تتواجد المصارف التركية مثل بنك خلق في تسهيل تمويل التجارة والمشروعات في بعض الدول الإفريقية ودعم الشركات التركية عبر عمليات الائتمان الممولة من بنك الصادرات التركي.

وحرصت تركيا على انشاء مناطق صناعية تركية في السودان وإثيوبيا ودول غرب إفريقيا لتعمل بمثابة مراكز إنتاج وتوزيع إقليمية ولتجنب الرسوم الجمركية وتعزيز الهيمنة والقبول السياسي.

كما تمنح تركيا عبر مؤسسة وقف المعارف على تقديم منح دراسية وتعليمية لعدد من الطلاب الافارقة مما يسهل التعاون التجاري لاحقا وقيام الخطوط الجوية التركية بربط نحو ستين مدينة افريقية بإسطنبول مما يزيد من التجارة والسياحة.

وتحرص السياسة الخارجية التركية على الربط ما بين الاقتصاد والأمن، ففي الصومال وليبيا يترافق التواجد الاقتصادي مع التواجد العسكري والأمني مع قيام وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) كوسيلة هامة في التمهيد لتعزيز التعاون الاقتصادي كأداة هامة في تحقيق اهداف السياسة الخارجية التركية.

في العراق، استغلت تركيا مشاريع التجارة والبنية التحتية لكسب نفوذها. يهدف مشروع طريق التنمية التركي العراقي المقترح، والذي تبلغ تكلفته 17 مليار دولار، إلى كسب النفوذ وتحويل تركيا إلى مركز لوجستي في منطقة آسيا والشرق الأوسط، مما يعزز مكانتها العالمية ويجعل حكومة إقليم كردستان معتمدة اقتصاديًا على التعاون التركي .

في قطر، تُقدّم القاعدة العسكرية التركية دعمًا دفاعيًا، وتُعزّز نفوذ أنقرة على الدوحة، الداعم المالي الرئيسي للحركات الإسلامية الإقليمية التي تخدم المصالح التركية.

وبالمثل، في الصومال، أصبحت تركيا شريكًا اقتصاديًا رئيسيًا، حيث تستثمر في البنية التحتية، وتُقدّم التدريب العسكري، وتستخدم القوة الناعمة لتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي.

توظيف البعد الايدلوجي:

لا تقتصر طموحات السياسة الخارجية التركية على الجغرافيا السياسية؛ بل تمتد إلى المجال الأيديولوجي. فقد عززت حكومة أردوغان علاقاتها الوثيقة مع الحركات الإسلامية السياسية، بما في ذلك حماس والإخوان المسلمين، مما يعكس استثمار تركيا طويل الأمد في تشكيل مستقبل الإسلام السياسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا. إن استضافة مؤتمرات تضم قادة حماس، مثل خالد مشعل، يُبرز التزامات أنقرة الأيديولوجية. علاوة على ذلك، تكشف شراكة تركيا مع قطر في تمويل الحركات الإسلامية عن استراتيجية منسقة للمجتمعات الإسلامية السنية المهيمنة عالميًا، خاصة بعد إضعاف محور المقاومة الإيراني.

تسعى تركيا إلى إعادة تعريف دورها كقوة فاعلة مستقلة، غير مُقيّدة بالتحالفات أو الأعراف التقليدية. وهذا يُثير تساؤلاتٍ مُلحّة حول كيفية التعامل مع تركيا التي تزداد حزمًا وتقلبًا. في الشرق الأوسط، قد تُفاقم طموحات تركيا التوترات القائمة. فمن خلال تنصيب نفسها زعيمةً للإسلام السني، تُخاطر تركيا بتعميق الانقسامات الطائفية وزعزعة استقرار المنطقة. كما يُمكن أن يُؤجج امتدادها الأيديولوجي التطرف ويُقوّض جهود تعزيز الاستقرار والحكم الديمقراطي. ومن خلال الجمع بين استراتيجيات التدخل والامتداد الأيديولوجي، تُعيد تركيا تشكيل المشهد الجيوسياسي للمنطقة وما وراءها، كما يدّعي أردوغان .

صراعات المتوسط:

لقد تأججت حالة عدم الاستقرار في شرق البحر الأبيض المتوسط بفعل عدة عوامل رئيسية تدور في المقام الأول حول اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي في المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص ومصر وإسرائيل. وقد أثار اكتشاف حقل ليفياثان الإسرائيلي عام 2010، تلاه حقل أفروديت القبرصي وحقل ظهر المصري، توقعات عالية بشأن صادرات الطاقة الإقليمية. وأدت هذه الاكتشافات إلى تكثيف النزاعات على الحدود البحرية وجذبت انتباه القوى الكبرى وشركات الطاقة. وقد طغت تحديات التسييل، بما في ذلك الحاجة إلى المزيد من الاكتشافات والتوافق السياسي الإقليمي، على التفاؤل الأولي بشأن الاستفادة من هذه الموارد لتحقيق الاستقرار الإقليمي والفائدة الاقتصادية. كما أعاقت الإجراءات الأحادية الجانب والنهج غير الشاملة التي انتهجتها تركيا التقدم والتعاون بين دول حوض المتوسط. ومما زاد من تعقيد هذه القضايا مشكلة قبرص التي لم تُحل، والتي لطالما أدت إلى توتر العلاقات اليونانية التركية وعرقلة التعاون الإقليمي. وقد أدت معارضة تركيا للحدود البحرية لقبرص وتدخلها في عمليات الحفر إلى تفاقم التوترات. أدى ظهور احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي إلى زيادة المخاطر، مما دفع اليونان إلى تعزيز تحالفاتها الاستراتيجية. وقد مثّلت اتفاقيات ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة التي أبرمتها اليونان عام 2020 مع إيطاليا ومصر، والتي كانت تهدف إلى توضيح الحدود البحرية ومواجهة مطالبات تركيا، تحولاً كبيراً في نهجها.

ومع تصاعد الصراعات الإقليمية، لا سيما في سوريا وليبيا، لجأت تركيا بشكل متزايد إلى التدخلات العسكرية والإجراءات الأحادية الجانب. وكان هذا التحول مدفوعاً بتزايد تصورات التهديد، لا سيما في أعقاب انهيار عملية السلام الكردية ومحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، مما أدى إلى تفاقم المخاوف بشأن أمن النظام. علاوة على ذلك، غذّى تنافس تركيا مع المحور السعودي الإماراتي نهجًا صفريًا في صراعات القوة الإقليمية، وعزز وجودها العسكري في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ويؤكد هذا التوجه الجديد أيضًا جهود تركيا لموازنة علاقاتها مع قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من تحديات تباين المصالح. وبشكل عام، سلّطت استراتيجية تركيا الضوء على نهج أمنيّ وعرضة للمخاطر، يعكس طموحاتها الأوسع، ويغذي مشهدًا إقليميًا متزايد التقلب .

ختاما، فان الهواجس التي تثيرها تركيا لدى بعض الدول خاصة في المنطقة العربية لا تنبع فقط من مواقف آنية وتحركات عابرة، بل هي نتاج تفاعل معقد بين التاريخ والسياسة والاقتصاد والجغرافيا وشخصية الحاكم. فطموحات تركيا الإقليمية وسعيها لتوسيع دوائر الهيمنة والنفوذ عبر توظيف استراتيجيتها الخشنة والناعمة يضعها في مسار تصادمي أحايين كثيرة مع مصالح قوى إقليمية وحتى دولية أخرى. وبذلك تظل تركيا مصدر لإثارة الهواجس مالم تعمل تركيا على تبني سياسات واضحة لبناء الثقة ومن دون ذلك سيبقي سلوكها محفوفا بالشكوك والصدامات.

تم نسخ الرابط