عاجل

أطلقها ترامب أبريل الماضي.. كيف أثرت الرسوم التجارية على السياسة العالمية؟

ترامب
ترامب

لم تفرق الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عاتية من البيت الأبيض في 3 أبريل 2025 بين حليف ومناكف صديق أو عدو قوي أو ضعيف صغير أو كبير قريب أو بعيد من الدول والمناطق. فأولئك الذين توفر لهم واشنطن الحماية العسكرية وجدوا أنفسهم أمام معضلة الرسوم الجمركية العالية، فهل يردون ويقع عليهم الغضب الأمريكي أم يصمتون فيزداد جموح واشنطن؟.

ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المناوئون جاءت من قبلهم ردود وأحياناً بالمثل. فهل يفاقم ذلك الغضب الأمريكي عليهم؟، وهل يقف هذا الغضب عند الشق التجاري؟. ثمة فريق ثالث من الدول ظروفه الاقتصادية في غاية السوء، وصادراتهم إلى واشنطن قد لا تمثل واحد في الألف من صادرات دول أخرى، ومع ذلك وجدوا أنفسهم تحت سحق الرسوم التجارية الأمريكية. فكيف سيؤثر ذلك ليس فقط على متحصلاتهم من الصادرات، وإنما على سوق العمل الداخلي؟.  وتزداد الأمور تعقيداً في الدول التي يجتمع فيها الفقر مع الجوع رفقة صراعات داخلية أو كوارث طبيعية.

تعليق تطبيق الرسوم الجمركية بعد أسبوع واحد من إقرارها مع استثناء الصين التي زادت نسب الرسوم المفروضة عليها أدى لاحقاً إلى مفاوضات بين الجانبين. ثم توالت إعلانات الإدارة الأمريكية عن رسوم أقل مما أعلن عنها ابتداءً على كثير من الدول، وكذلك تجري المفاوضات مع دول كثيرة أخرى، وقد جرى الإعلان عن التوصل إلى اتفاقات مع بعض الدول وعلى رأسها إندونيسيا، ثم لحقتها اليابان، ومن ثم الاتحاد الأوروبي.

في خضم كل ذلك، أعلنت واشنطن أنها سوف تفرض رسوماً جمركية على أولئك الذين يدعمون روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ومعروف أن الصين من بين تلك الدول التي تتهمها واشنطن بدعم موسكو، كما أن دولة مثل الهند تشتري النفط الروسي بكثافة، ناهيك عن دول أخرى لم توقف تعاملاتها مع موسكو بعد الحرب، بل إنها قد زادت، وهناك دول متهمة بتقديم دعم تقني ومعدات عسكرية ومنها الصين وإيران وكوريا الشمالية، والأخيرة يقال إنها قد أرسلت آلاف الجنود للقتال إلى جانب روسيا، خاصة في مقاطعة كورسك التي كانت أوكرانيا قد سيطرت عليها لفترة.

من الواضح أنه كلما كان هناك تفاؤل بخصوص هدوء موجة الرسوم التجارية الأمريكية تظهر مؤشرات على عكس ذلك خاصة وأن الأمر لم يعد قاصراً على تأثيرات الحرب التجارية على العلاقات الثنائية فيما بين واشنطن والدول والتكتلات الإقليمية، وإنما النظام الدولي بمؤسساته وقواعده وتفاعلاته في ظل التسييس الواضح للرسوم التجارية. بل كان هناك ربط واضح بين قضايا سياسية وعسكرية عند إعلان التوصل إلى اتفاقات كما حدث مع الاتحاد الأوروبي.

الرسوم التجارية.. سياسة عالمية أمريكية

"من الواضح أن قضية التجارة قد طرحت. ولكن كما أذكركم جميعاً، لا توجد دولة في العالم يمكنني مقابلتها الآن دون أن تطرح قضية التجارة والتعريفات الجمركية، لأن هذا إجراء عالمي". بهذه الكلمات الواضحة بدأ وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في 11 يوليو 2025 - أي بعد مرور حوالي ستة أشهر فقط على تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة - زيارته الأولى لآسيا، والتي كانت في كوالالمبور، حيث عقد الكثير من اللقاءات ليس فقط مع نظرائه في رابطة أمم جنوب شرقي آسيا (الآسيان)، وإنما كذلك نظرائه من الدول المشاركة في اجتماعات المنتدى الإقليمي للآسيان، وقمة شرقي آسيا، كما كان لافتاً لقاءيه بكل من وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف، والصيني وانج يي كل على حدة.

في فترته الرئاسية الأولى، استهدف الرئيس دونالد ترامب الصين برسومه الجمركية التي ردت عليها بكين. ومن ثم تم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين. وعندما عاد إلى البيت الأبيض ثانية وبدأ إجراءاته التجارية، بدا أن الأمر أوسع وأشمل من الصين. بل إن الأخيرة كانت في منأى من النسب العالية للرسوم التجارية ابتداءً فيما بدا أنه تهدئة معها، خاصة وأن ترامب كان قد ألغى قراراً لإدارة بايدن بخصوص برنامج تيك توك مما سمح للشركة الصينية بمواصلة نشاطها على الأراضي الأمريكية ولو إلى حين. وكانت رسومه عالية على الحلفاء والشركاء مثل كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي. كما أنه لم يستثن أحداً فيما يتعلق بالرسوم الخاصة بواردات الألومنيوم والصلب. إلى أن جاء اليوم المشهود في البيت الأبيض حيث توالى توقيع المراسيم الرئاسية ومن ثم أمسك الرئيس ترامب بقوائم الدول ونسب الرسوم التي ستفرض عليها. وقد شملت القوائم معظم دول العالم. وكانت النسب صادمة جداً. فهناك دول رغم هشاشتها الاقتصادية وقلة حجم واردات الولايات المتحدة منها وصلت الرسوم عليها إلى 50% مثل ليسوتو في أفريقيا. وكانت النسب قريبة من ذلك بالنسبة لفيتنام وكمبوديا 46% و49% على التوالي. وبالنسبة للصين كانت النسبة 34%.

الصين ردت بالمثل في إطار مبادئها العامة بخصوص الحرب التجارية بناءً على رفضها لها من حيث المبدأ، وإن كانت في الوقت نفسه مستعدة لها، ومن ثم خوضها إذا ما فرضت عليها وبندية تامة، وإلى النهاية. وهذا نهج اتبعته منذ إجراءات ترامب الأولى ضدها في الولاية الأولى وكذلك حيال إجراءاته المتوالية منذ عاد إلى البيت الأبيض. وفي ذات الوقت فإن بكين لم تغلق باب الحوار أبداً مع تأكيدها على أن الرسوم التجارية لا تؤذيها فقط، وإنما تؤذي الجانب الأمريكي أيضاً. كما أنها تؤثر بالسلب على سلاسل التوريد والتجارة الدولية برمتها.

الجانب الأوروبي الواقع تحت صدمات متوالية من إدارة ترامب، أولها الانفتاح الأمريكي الكبير على روسيا، والذي وصل إلى حد التصويت ضد قرارات روتينية تدينها في الأمم المتحدة على خلفية الحرب في أوكرانيا، وثانيها الموقف من تلك الحرب على أكثر من صعيد، وخلاصة النهج الأمريكي في ذلك أن الدعم المالي والعسكري ليس فقط مقيد بل إنه قد يتوقف تماماً ما لم تنصاع أوكرانيا لما تريده واشنطن. والأكثر من ذلك أن ما دفعته واشنطن لابد أن تسترده سواء عبر السيطرة على معادن أوكرانيا النادرة أو غيرها من الصفقات. ومع كل ذلك الضغط على أوكرانيا لكي تقبل بسلام لا يستبعد فيه تنازلها عن أراض احتلتها روسيا، وثالثا كان الضغط الأمريكي الجامح بخصوص زيادة الإنفاق العسكري من قبل الأوروبيين. وهنا برزت تصريحات الرئيس دونالد ترامب في 27 يوليو الفائت عندما تم الإعلان عن اتفاق تجاري جديد مع الاتحاد الأوروبي بخصوص قيام دول الاتحاد بشراء أسلحة أمريكية بمئات المليارات من الدولارات. ويمكن إضافة عنصر رابع يتمثل في لغة التعالي بل والازدراء التي يتحدث بها بعض أركان الإدارة الأمريكية حيال أوروبا سواء كان ذلك على الأراضي الأمريكية كما فعلت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت عندما ذكرت أنه لولا دور بلادها في الحرب العالمية الثانية لكانت باريس تتحدث باللغة الألمانية، كناية عن استمرار الاحتلال الألماني. كما أن نائب الرئيس جي دي فانس كان حاداً جداً عندما خاطب الأوروبيين في ميونخ وانتقد أوضاعاً تمس صميم الشئون الداخلية الأوروبية بما في ذلك لدى المملكة المتحدة أكبر حلفاء واشنطن الأوروبيين.

لكن يلاحظ أن هذا النهج الأمريكي قد بدأ يتحول ليكون أكثر ليناً تجاه أوروبا من ناحية أولى، ولتعود لهجة التشدد تجاه روسيا من ناحية ثانية، في ظل ما اعتبره ترامب "مراوغات" روسية، موجهاً سهام النقد مباشرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أن المخاوف بخصوص تزويد أوكرانيا بالسلاح بدأت تتبدد، وإن بشروط مختلفة عما كان في إدارة بايدن، بحيث يدفع الأوروبيون ثمنها طالما أن أوكرانيا غير قادرة على الدفع في الوقت الراهن. ومن ثم كان تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم تجارية بنسبة مائة بالمائة على حلفاء روسيا، ما لم تستجب الأخيرة إلى المطالب الأمريكية بخصوص السلام في غضون خمسين يوماً.

بريطانيا كانت هي الأهدأ أوروبياً في التفاعل مع إجراءات ترامب وذلك لأن مستوى الرسوم المفروضة عليها من بين الأقل مما تم فرضه. وثانياً لأنها سعت إلى التوصل لاتفاق ثنائي مع واشنطن بهذا الخصوص، وهذا ما حدث بالفعل. لكن على صعيد الاتحاد الأوروبي وإن كانت هناك دعوات للتفاوض من البداية إلا أن المسئولين الأوروبيين أكدوا على ضرورة الرد وبحسم على الإجراءات الأمريكية. ومن ثم أصبح السلوك الأوروبي أكثر مهادنة في ظل التأجيلات التي قامت بها إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإن ظل الباب مفتوحاً أمام المفاوضات، والتي تكللت بالوصول إلى اتفاق بالفعل قبل مهلة الأول من أغسطس الحالي، لكن يلاحظ أن نسبة الرسوم بعد الاتفاق ستظل عالية في حدود 15%.

إذا كانت الصين والاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والمكسيك وجنوب أفريقيا والهند تمتلك من الأدوات ما يكف للرد على الإجراءات الأمريكية في حال اختارت التصعيد، وكذلك لديها أوراق الضغط في المفاوضات، فماذا بشأن الدول النامية بما في ذلك الفقيرة منها؟. هذه الدول لا يقتصر وضعها الهش عند عدم امتلاك أدوات ضغط على واشنطن كتلك التي تمتلكها الدول والقوى الكبرى تجارياً على الأقل، وإنما هي واقعة تحت الضغط الأمريكي إذا ما هي قررت البحث عن بدائل مع قوى أخرى مناوئة لواشنطن وعلى رأسها الصين. والتهديد الأمريكي في هذا الشأن لا يقف عند تلك الشريحة من الدول، وإنما يشمل كذلك دول ومناطق أقوى أيضاً.

وتبقى حالة البرازيل واضحة تماماً في مدى الربط بين مسألة فرض الرسوم التجارية وقضايا سياسية، خاصة فيما يتعلق بمحاكمة الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسينارو، والذي لم يخف الرئيس الأمريكي وقوفه إلى جانبه ومعارضته لتلك المحاكمة. ومن ثم فقد اعتبر الرئيس البرازيلي الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا التهديد الأمريكي بفرض رسوم تجارية عالية على بلاده، على الرغم من وجود مفاوضات بين البلدين بهذا الخصوص بأنه "ابتزاز غير مقبول".

اهتزاز في العلاقات الدولية

إن ما قام به الرئيس ترامب على صعيد الرسوم الجمركية والذي وصف تارة بـ"الزلزال" وتارة بـ"القنبلة" قد أحدث تأثيرات واسعة على صعيد العلاقات الدولية. ولم يعد عدم اليقين قاصراً على ما يمكن أن يطال الشق الاقتصادي بما في ذلك معدلات النمو على ضوء التحديات التي تفرضها الإجراءات الأمريكية ابتداءً وما سيلحق بها من إجراءات مضادة. فقد انتقلت تلك الحالة إلى الجوانب السياسية للعلاقات الدولية. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى اهتزاز ثقة حلفاء واشنطن بها، سواء كان هؤلاء الحلفاء في الجوار المباشر للولايات المتحدة أو في القارة الأوروبية أو في شرقي آسيا.

ففي الجوار المباشر، لم تجد كندا نفسها تحت ضربات الرسوم الجمركية المتوالية فقط، وإنما صدمها ترامب برغبة ملحة في أن تصبح الولاية الحادية والخمسون. يحدث هذا رغم أن كلاً من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك كانت بينهم اتفاقية للتجارة الحرة تم تعديلها في ولاية ترامب الأولى.

وقد كانت كندا رفقة المكسيك ومعهما الصين ممن فرض عليها ترامب رسوماً جمركية على خلفية وصول شحنات كبيرة من مادة الفنتانيل المخدرة إلى الأراضي الأمريكية، حيث تتهم الصين على صعيد التصنيع، وكندا والمكسيك على صعيد عدم اتخاذ إجراءات كافية لمنع مرور هذه المادة إلى الأراضي الأمريكية.

قادة كندا وقفوا بالمرصاد لما يطرحه الرئيس ترامب، خاصة وأن التحدي لم يعد مجرد خلافات تجارية متصاعدة كان يندر وجودها في السابق. وإن كان ترامب قد ربط بين الأمرين عندما قال: "إذا بقيت كندا دولة ذات سيادة، فإن التكلفة المالية لعلاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة قد تكون مدمرة". أي أن التحدي بات وجودياً فيه إلغاء لكندا نفسها كدولة. ومن ثم فإن رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو تحدث عن رسوم بنفس النسبة التي تفرضها واشنطن. وذهب إلى القول بأنه "لا توجد فرصة، ولا حتى فرصة بقاء كرة ثلج في الجحيم، أن تصبح كندا جزءاً من الولايات المتحدة. العمال والمجتمعات في بلدينا يستفيدون من كوننا أكبر شريك أمني وتجاري أحدنا للآخر".

وجاء رئيس الوزراء الجديد مارك كارني وهو بالمناسبة اقتصادي محنك وتولى رئاسة البنك المركزي الكندي وكذلك البنك المركزي الانجليزي ليواصل ما بدأه ترودو من حيث رفض السردية الأمريكية كاملة وتحديها أيضاً، حيث ذهب إلى أن بلاده لن تكون أبداً جزءاً من الولايات المتحدة، معتبراً أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تعتبر أكبر تحدٍ لبلاده. وكان قد ذهب إلى وصف ما تعيشه بلاده بأنها "أيام مظلمة" مرجعاً ذلك إلى الولايات المتحدة التي لم تعد موضع ثقة بالنسبة لكندا. ومن ثم قالها صراحة أيضاً: "كندا لن تكون أبداً جزءاً من أمريكا، بأي شكل من الأشكال".

لم يقف القلق عند حلفاء واشنطن القريبين جغرافياً، وإنما انتقل إلى الحلفاء في منطقة الشرق الأقصى، والتي باتت واشنطن تطلق عليها منذ سنوات مسمى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في حين ما زالت بكين تصر على تسميتها المعتادة آسيا والمحيط الهادئ. فكما وجد الحلفاء الأوروبيون أنفسهم أمام ضغط على مستويين أولهما تجاري وثانيهما عسكري مالي يتمثل في ضرورة زيادة النفقات العسكرية إلى حدود خمسة بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة عالية جداً مقارنة بما كانت عليه مستويات الإنفاق العسكري في دول حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، فإن حلفاء واشنطن في شرقي آسيا، وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية وجدوا أنفسهم في مرمى الرسوم الجمركية العالية أيضاً، وكذلك مطالبات بنفقات أكثر أقله مساهمة في تكاليف وجود القوات الأمريكية على أراضي كل منهما. وكما هو معلوم فإن الرئيس دونالد ترامب كان قد أثار هذه المسألة منذ ولايته الأولى، مطالباً كوريا الجنوبية بدفع المزيد، ومطالباً اليابان بشراء المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية. وقد عجلت كوريا الجنوبية إجراء مفاوضات تجديد الاتفاق الذي يحدد نصيبها من نفقات القوات الأمريكية على أراضيها في ظل إدارة بايدن، وقد تم التوصل إلى اتفاق مبكر بالفعل، لكن ذلك لن يمنع الرئيس ترامب من المطالبة بالمزيد، حيث إن لديه قناعة بأن الجانب الكوري الجنوبي يدفع القليل، ومن ثم فلا يستبعد أن يضغط باتجاه تعديل الاتفاق أو الحصول على مساهمات إضافية بطرق مختلفة. يأتي كل ذلك بينما تستمر المفاوضات بين طوكيو وسول من ناحية وواشنطن من ناحية أخرى بخصوص الرسوم التجارية. وعلى الرغم من الإعلان عن توصل الولايات المتحدة واليابان إلى اتفاق بخصوص الرسوم التجارية، إلا أن هذا الاتفاق وجهت له سهام نقد كثيرة من المعارضة اليابانية، من بينها الخشية من أن تعاود الإدارة الأمريكية فرض المزيد من الرسوم. ويبدو أن هذه الخشية لا تقف عند اليابان خاصة في ظل تقلبات تصرفات إدارة ترامب.

بطبيعة الحال وبحكم القرب من الصين، فإن حلفاء واشنطن في شرقي آسيا قد فهموا الرسالة الأمريكية الخاصة بالتحذير من التعاون مع بكين في مواجهة الرسوم الجمركية جيداً، ومن ثم كان التأكيد على النهج الأحادي في التعامل مع تلك القضية عبر التفاوض مع واشنطن. وإذا كان هذا هو حال الحلفاء فإن حال غيرهم لن يكون أحسن كثيراً، خاصة في ظل التحذير الأمريكي الواضح للجميع من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية في ظل كثافة الاعتماد على السوق الأمريكية. ولعل هذا ما جعل دول رابطة جنوب شرقي آسيا (الآسيان) العشر تحجم عن اتخاذ إجراءات مضادة للإجراءات الأمريكية، معلنة عن تفضيل الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة. وكما ذكر فقد تكللت تلك المفاوضات باتفاق مع إحدى أهم دول الرابطة ممثلة في إندونيسيا، وعلى الرغم من أن الاتفاق تضمن رسوماً أقل من تلك التي فرضت ابتداءً على جاكرتا، إلا أن هناك مخاوف من قبل المنتجين الإندونيسيين أيضاً بخصوص الرسوم الجديدة، والتي يرون أنها ما زالت عالية، ويتخوفون من ميزات تنافسية قد يحصل عليها المنتجون في دول أخرى في حال نجاح تلك الدول في الحصول على معدلات رسوم أقل في مفاوضاتها مع واشنطن.

من ناحية أخرى، فإن واشنطن لا تتبع فقط سيف الترهيب، وإنما هناك حديث عن التزامات تجاه المنطقة، وفوائد قد تتحقق من صفقات بعيداً عن مسألة الرسوم الجمركية، وقد كان وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو واضحاً في هذه المسألة عندما التقى في ماليزيا نظرائه من دول الآسيان، حيث برزت مسألتان مهمتان: أولاهما تتمثل في تأكيد الالتزام الأمريكي تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ليس فقط باعتبار الولايات المتحدة تطل على المحيط الهادئ، وإنما بحكم اعتبارات الروابط التي نمت مع دول المنطقة، حتى مع تلك التي حاربتها واشنطن لسنوات، كما هو الحال  بالنسبة لفيتنام، ومن ثم فقد قال روبيو نصاً: "إن الولايات المتحدة دولة تقع في منطقة دول المحيط الهادئ – ليس مجرد أن البرّ الرئيسي للولايات المتحدة يطل على المحيط الهادئ، بل لدينا مواطنون أمريكيون، وإحدى ولاياتنا الخمسين. والولايات المتحدة هي المصدر الأول للاستثمار الأجنبي المباشر في جنوب شرق آسيا. نحن لن نتخلى عن أي من ذلك، ولا عن العلاقات الثنائية القوية التي تربطنا بالعديد من هذه الدول، والتي يعود بعضها إلى عقودٍ طويلة"، من ثم فإن روبيو أكد على استمرار وضع المنطقة في محور اهتمام السياسة الخارجية الأمريكية إدراكاً من واشنطن لأهمية هذه المنطقة في تحديد مستقبل العالم، حيث قال نصاً: "إن منطقة المحيطين الهندي والهادئ لا تزال محوراً أساسياً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وعندما أسمع في الأخبار أن الولايات المتحدة أو العالم قد ينشغلان بأحداث في أجزاء أخرى من العالم، أقول إن هذا الانشغال مستحيل، لأنه في رأينا الراسخ قصة الخمسين عاماً القادمة ستكتب إلى حد كبير هنا في هذه المنطقة، في هذا الجزء من العالم".

كون المنطقة في محور السياسة الخارجية الأمريكية، وكون الأخيرة بات مبدأها الأول "أمريكا أولاً"، وكون مسألة الرسوم التجارية باتت في صلب السياسة الخارجية الأمريكية انطلاقاً من هذا المبدأ، فإن المسائل التجارية كانت حاضرة لدى زيارة الوزير الأمريكي إلى كوالالمبور، وقد كانت مقولته التي صدر بها القسم الأول من هذا المقال واضحة جداً في هذا الشأن.

 أما المسألة الثانية فإنها تتمثل في توقيع مذكرة تفاهم مع ماليزيا بخصوص التعاون الاستراتيجي في المجال النووي المدني. وهنا يبرز الحرص الأمريكي على ما يمكن تسميته بدبلوماسية الصفقات، لا سيما في مثل هذا المجال الذي يتزايد الإقبال عليه عالمياً، وبات فيه منافسون غير تقليديين فيما يتعلق بعقود بناء المفاعلات النووية. وقد اعتبر روبيو مثل هذا الاتفاق بمثابة دعم للاقتصاد الأمريكي "من خلال تعزيز القدرة التنافسية التجارية للولايات المتحدة في السوق النووية المدنية العالمية، وتوفير فرص أكبر لزيادة صادرات الطاقة النووية المدنية حول العالم".

وهكذا بينما العالم بمؤسساته المختلفة وكبار مسئوليه يحذرون من حالة عدم اليقين، ومخاطر استمرارها، فإن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت تحدث عما أسماه "حالة اليقين الاستراتيجي"، معتبراً أن هذه الحالة تضمن لبلاده الغلبة.

من الواضح تماماً أن هذه الفكرة لم تعد قاصرة على الجوانب التجارية، وما يرتبط بها من قضايا من قبيل تخفيض قيمة العملة، وعدم احترام براءات الاختراع، وإنما باتت عصا ترفع أيضاً للحصول على تنازلات في قضايا سياسية وصراعات مسلحة، وتبدو حالتا البرازيل والصراع في أوكرانيا المثالين الأوضح على هذا الصعيد.

في الختام، تبقى هناك أسئلة كثيرة مطروحة من بينها: إلى أي مدى يمكن أن تستمر إدارة الرئيس ترامب في استخدام أداة الرسوم التجارية في سياستها الخارجية؟، وكيف سيكون مردود ذلك على مكانة واشنطن الدولية على المدى البعيد؟، وهل تصلح هذه الأداة وحدها لمعالجة مسائل هيكلية داخلية أمريكية؟، ومن ثم ما هي جدوى توظيفها في المسائل الاستراتيجية المعقدة؟، كيف ستؤثر كل هذه التفاعلات على المنظمة الأم المعنية بشئون التجارة العالمية؟، وهل يمكن لما يحدث أن تكون له آثار على التجمعات الإقليمية المتنوعة عبر العالم؟، وهل يمكن أن يتأسس تعاون عبر أقاليمي بمعايير جديدة؟.

مثل هذه الأسئلة قد تكون هناك محاولات منهاجية للإجابة عنها في الدوائر البحثية، فردية كانت أو مؤسسية، لكن الإجابات العملية لم تتضح بعد على أرض الواقع، خاصة وأن الأمر ما زال يتأرجح بين التصعيد والتهدئة، ضرب المواعيد، ثم التأجيل. وهذا في حد ذاته يزيد من حالة الاضطراب وعدم اليقين.

تم نسخ الرابط