عاجل

بين المنهج والطريقة.. هل نحكم على التصوف من أفعال أتباعه؟

الصوفية
الصوفية

يُعد التصوف من القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا في الساحة الإسلامية قديمًا وحديثًا، بين مؤيد يراه لبّ الدين وروحه، ومعارض يتهمه بالخروج عن منهج الشريعة، ووسطٍ يدعو إلى التمييز والإنصاف. وقد زاد هذا الجدل في العصر الحديث مع تصاعد موجات النقد والهجوم، سواء من بعض التيارات السلفية التي ترفض التصوف جملة، أو من فئات أخرى خلطت بين حقيقة التصوف وبين ما يُمارس باسمه من سلوكيات أو معتقدات لا تمتّ إلى جوهره بصلة.

واللافت أن هذا الاختلاف غالبًا ما ينشأ من عدم التفرقة بين "التصوف كعلم ومنهج تربوي رباني"، وبين "الطرق الصوفية" التي هي جماعات وتنظيمات بشرية تختلف باجتهاداتها وممارساتها وتقاليدها. فالتصوف – في أصله – هو السعي إلى تحقيق مقام الإحسان الذي عرفه النبي ﷺ بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". أما الطرق الصوفية، فهي مدارس روحية ظهرت عبر التاريخ لتأطير هذا المسار التربوي، لكنها قد تشوبها اجتهادات بشرية، منها ما يوافق الشريعة، ومنها ما يستحق المراجعة والنقد.

من هنا، يصبح من الضروري التفريق بين جوهر التصوف الذي يعبر عن بُعد روحي في الإسلام مرتبط بتزكية النفس وتهذيب السلوك، وبين الممارسات الخاطئة أو المنحرفة التي قد تظهر في بعض الطرق أو على يد بعض المنتسبين. فليس من الإنصاف أن يُحمّل التصوف وزر من انحرف باسمه، كما لا يجوز رفض الطرق كلها لمجرد أن بعضها شابه البدع أو المغالاة.

التصوف منهج تربوي

ومن هذا المنطلق أكد الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الجمهورية السابق، أن كثيرًا من الناس في العصر الحاضر قد خلطوا بين التصوف كمنهج تربوي عميق، وبين تصرفات بعض من يدّعون الانتساب إليه دون التزام بمنهجه الصحيح، مشددًا على أن هذا الخلط يشبه ما يحدث حين يُحمّل الإسلام مسؤولية أفعال بعض المسلمين، وهو أمر مرفوض شرعًا وعقلاً، لأن أفعال البشر ليست حجة على الدين.

وأوضح الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الجمهورية السابق ، في تصريح له، أن النبي ﷺ قد حذر من فساد الزمان واختلاط الأمور، مستشهدًا بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، الذي جاء فيه وصف النبي ﷺ لأزمنة الفتن، وظهور دعاة على أبواب جهنم، موصيًا بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، أو العزلة عن الفرق الضالة إن لم تكن هناك جماعة قائمة على الحق.

الاجتهاد لا ينسب إلى الله ورسوله ولكن لفهم العلماء

وأشار الدكتور علي جمعة إلى أن الحكم على الأمور لا بد أن يكون مستندًا إلى الشريعة، ولكن في حال الاجتهاد – سواء في الحكم أو التفاوض – فإن الأمر لا يُنسب إلى الله ورسوله مباشرة، بل إلى ما فهمه العلماء من النصوص، مؤكدًا أن التصوف الإسلامي الصحيح قائم على الكتاب والسنة، ويعتمد على الاجتهاد المنضبط، كما هو الحال في علم الفقه والعقيدة.

وانتقد فضيلته من ينكرون التصوف بسبب تصرفات خاطئة لبعض المنتسبين إليه، مشبهًا ذلك بما فعله بعض الصحابة حين أرادوا إلغاء السعي بين الصفا والمروة لأنه كان من أفعال المشركين، فأنزل الله الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ...} لتأكيد بقاء المشروع ورفض الخلط بين الأصل الديني والانحراف البشري.

وأضاف أن التصوف الحقيقي هو حفظ مقام الإحسان، وقد كتبت فيه أمهات الكتب عبر القرون، وتناوله العلماء مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم في سياق الحديث عن الزهد، والورع، والتقوى، وأعمال القلوب، بعيدًا عن الخرافات والبدع.

واختتم الدكتور علي جمعة حديثه بالتأكيد على أن التصوف تاه في عصرنا بين أعدائه وأدعيائه، داعيًا إلى الإنصاف في الحكم، والتمسك بالمنهج النبوي، ورفض الغلو والتشدد الذي يغلف نفسه بزي السلف، بينما هو في حقيقته بعيد عن السُّنة، قائلًا: "المنهج النبوي علمنا أن نُخلّص الحق من الباطل، لا أن نرمي الجميع بتهمة واحدة".

تم نسخ الرابط