عاجل

هل تراجعت الثقة العربية في المظلة الأمريكية؟.. منذ الحرب الخليجية الأولى مرورًا بالحرب على العراق في 2003، ثم الحرب على الإرهاب، وصولًا إلى النزاعات الإقليمية الحديثة، لعبت القواعد العسكرية الأمريكية في منطقة الخليج دورًا محوريًا في هندسة توازنات القوة في الشرق الأوسط لم تكن هذه القواعد مجرد منشآت عسكرية على أراضٍ خليجية، بل مثّلت امتدادًا لنفوذ واشنطن الاستراتيجي واذراعها المتقدمة لحماية المصالح الغربية، وضمان أمن حلفائها في منطقة تُعد الأكثر حساسية من حيث تدفقات النفط والتوترات الجيوسياسية. 
في المقابل، نظر العديد من القادة العرب إلى ان الوجود الأمريكي بوصفه ضمانة للأمن الداخلي والخارجي، في ظل تهديدات محتملة من قوى إقليمية كإيران أو حركات متطرفة عابرة للحدود لكن التحولات الأخيرة التي شهدتها المنطقة، سواء بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، أو التباطؤ الواضح في ردّ واشنطن على تهديدات إيرانية ضد مصالح حلفائها، إضافة إلى صعود قوى جديدة كالصين وروسيا في الساحة الخليجية، قد طرحت تساؤلات جدية حول مستقبل القواعد الأمريكية، بل ومستقبل “المظلة الأمنية” الأمريكية برمتها.
أهمية هذا الموضوع تتجلى في أنه لا يتعلق فقط بالوجود العسكري، بل يلامس صميم التوازن الاستراتيجي في المنطقة فإعادة تقييم الدول الخليجية لعلاقتها الأمنية مع الولايات المتحدة قد تنعكس على شكل التحالفات، طبيعة التسلح، والاستثمار في بدائل أمنية قد تكون بعيدة عن واشنطن لذلك، من المهم فهم طبيعة التحولات الجارية، وانعكاساتها على مستقبل القواعد الأمريكية، ومدى تراجع الثقة العربية في المظلة الأمريكية.
فعلى مدى عقود، شكّلت الولايات المتحدة القوة الضامنة للاستقرار في الخليج، عبر اتفاقيات دفاعية مباشرة مع المملكة العربية السعودية، قطر، الكويت، البحرين، والإمارات العربية المتحدة وقد أسست واشنطن عدة قواعد رئيسية، أبرزها قاعدة العديد في قطر، وقاعدة الظفرة في الإمارات، وقاعدة علي السالم في الكويت، فضلًا عن الأسطول الخامس في البحرين.
لكن سلسلة من الأحداث المتلاحقة كشفت عن فجوة متزايدة بين تطلعات الحلفاء الخليجيين، والتصرفات الفعلية للولايات المتحدة على الأرض بداية من عدم الرد القوي على الهجوم الإيراني على منشآت أرامكو في بقيق وخريص عام 2019، ومرورًا بتخلي واشنطن المفاجئ عن الحكومة الأفغانية وسحب قواتها خلال أيام، ثم التباطؤ الواضح في دعم حلفائها في بعض لحظات التوتر مع إيران، كلها مؤشرات جعلت بعض صناع القرار الخليجيين يتساءلون: هل لا تزال واشنطن ملتزمة فعليًا بالدفاع عن الخليج؟ أم أن أولوياتها الاستراتيجية تغيرت جذريًا؟
باتت عدة دول خليجية تتجه نحو تعزيز التعاون الدفاعي مع قوى كبرى بديلة أو مكملة للولايات المتحدة، مثل فرنسا، الصين، وروسيا وقّعت السعودية اتفاقيات تعاون عسكري مع الصين، واستضافت الإمارات قوات فرنسية كما ازدادت صفقات شراء السلاح من دول غير غربية، في محاولة لتقليل الاعتماد على واشنطن كمورد وحيد للأمن والدعم العسكري.
أدركت دول الخليج أن الاعتماد المفرط على الحماية الأمريكية ليس مستدامًا، وبدأت تستثمر في بناء قدراتها العسكرية الذاتية، من خلال تطوير صناعات دفاعية محلية، وزيادة ميزانيات الدفاع، وتدريب القوات الوطنية على إدارة أنظمة دفاع متقدمة.


أظهرت الأزمة الأوكرانية، وكذلك التوتر بين واشنطن وبكين، أن بعض الدول الخليجية لم تعد مستعدة للانخراط الكامل في أجندة السياسة الأمريكية امتنعت السعودية والإمارات عن اتخاذ مواقف معادية لموسكو، رغم الضغوط الأمريكية، ورفضتا خفض إنتاج النفط رغم الطلبات الغربية هذا التوجه يعكس قناعة جديدة بأن المصالح الخليجية يجب أن تُدار بمرجعية داخلية، وليس فقط عبر الاصطفاف مع الولايات المتحدة.
في بعض اللحظات، تصبح القواعد الأمريكية هدفًا للخصوم أو ورقة ضغط فقد تعرّضت منشآت قريبة من القواعد الأمريكية لهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة، كما حدث في العراق وسوريا وهو ما يثير قلقًا لدى بعض الحكومات الخليجية من أن يُنظر إلى الوجود الأمريكي بوصفه "مغناطيسًا" للأزمات، وليس مصدرًا للأمان فقط.
في السنوات الأخيرة، أصبح من الملحوظ تصاعد نبرة التشكيك في دور أمريكا في المنطقة، حتى داخل بعض الأوساط الخليجية الرسمية أو شبه الرسمية فلم تعد واشنطن تُرى بنفس القداسة أو القوة القادرة على ردع الخصوم هذا التغير في المزاج العام، وإن كان تدريجيًا، إلا أنه يعكس تحولًا عميقًا في مفهوم التحالف .
لا تعني التحولات الراهنة بالضرورة أن الولايات المتحدة ستُجبر على إغلاق قواعدها في الخليج، لكنها تواجه تحديًا واضحًا يتمثل في ضرورة إعادة تعريف دورها وموقعها ضمن المنظومة الأمنية الجديدة التي بدأت تتشكل في المنطقة.
من المرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى تقليص عدد قواتها، والاعتماد أكثر على قواعد أصغر مرونة قابلة للتحرك، بدلًا من القواعد الكبرى التي تُكلف مليارات الدولارات كما ستعتمد أكثر على التدريب، والمساعدات التقنية، واستخدام الطائرات المسيّرة والطاقة السيبرانية بدلًا من نشر قوات على الأرض.
قد تعمل واشنطن على بناء شراكات أمنية إقليمية متعددة، مثل مشروع الدفاع الجوي المشترك بين دول الخليج وإسرائيل، الذي نوقش ضمن اتفاقيات التطبيع، بحيث تقلل من الحاجة لوجود مباشر، وتُوكل جزءًا من المهام الأمنية لحلفاء إقليميين.
مع تزايد التهديدات السيبرانية والبحرية، من المرجح أن تتحول قواعد كقاعدة البحرين (الأسطول الخامس) إلى مركز رئيسي للردع البحري والسيبراني، ما يجعلها جزءًا من منظومة مراقبة دولية تتجاوز حدود الخليج.
ومع ذلك، سيبقى الوجود الأمريكي في الخليج مرتبطًا بمدى استعداد واشنطن لتقديم التزامات حقيقية لأمن حلفائها فالمنطقة لا تقبل الرمادية؛ إما التزام واضح وصريح، أو انسحاب تدريجي وصامت، يفسح المجال لقوى أخرى.
وهنا السؤال الذى يطرح نفسة هل انتهت مظلة واشنطن؟ الجواب المعقول حتى اللحظة هو: لا، لكن المظلة باتت مخرّمة، ومحل شك، وتتطلب إصلاحًا جذريًا فما زالت الولايات المتحدة تملك أوراقًا قوية في الخليج، مثل التفوق التكنولوجي، البنية التحتية الاستخباراتية، والروابط العميقة بالمؤسسات العسكرية الخليجية إلا أن هذه الأوراق لم تعد وحدها كافية لضمان الثقة.
ان تراجع الثقة العربية في المظلة الأمريكية ليس فقط نتيجة أخطاء تكتيكية، بل هو انعكاس لتحول عميق في نظرة الدول الخليجية إلى مصالحها، وتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب ومع بروز قوى جديدة، وسعي الدول الخليجية نحو الاستقلالية الاستراتيجية، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف شراكتها مع هذه الدول، لا بوصفها حامية، بل شريكة متساوية تحترم الخيارات السيادية وتحمي المصالح المتبادلة.
في النهاية، مستقبل القواعد الأمريكية في الخليج سيعتمد على مدى قدرة واشنطن على استعادة الثقة، وتقديم التزامات أمنية حقيقية، لا مجرّد وعود وإلا، فإن النفوذ الأمريكي في الخليج سيتراجع تدريجيًا لصالح قوى أخرى تملك الاستعداد والمرونة للتكيف مع النظام العالمي الجديد.

تم نسخ الرابط