عاجل

أهمية متجددة.. لماذا تبرز الاستخبارات البشرية في الحروب الحديثة؟

الاستخبارات البشرية
الاستخبارات البشرية في الحروب الحديثة

تمثل الاستخبارات البشرية أداة أساسية في الحروب ومكافحة الإرهاب، إذ تعتمد على جمع المعلومات من المصادر البشرية لاختراق أنظمة الخصم وفهم نواياه، ولعبت دورًا حاسمًا ضد تنظيمات كـبوكو حرام عبر توظيف الأصول المحلية لجمع المعلومات في بيئات تعجز التقنية عن اختراقها، رغم تحدياتها كطول بناء الشبكات وقابليتها للتضليل[1]،وفي ضوء الحروب الحديثة، خصوصًا حروب الجيلين الرابع والخامس، تظل الاستخبارات البشرية أداة لا غنى عنها لفهم نوايا الخصوم وكشف شبكاتهم المعقدة التي تعجز التقنيات عن رصدها، فهي تخترق البنية البشرية للعدو وتبني شبكات ثقة مع المجتمعات المحلية لجمع معلومات دقيقة وتنفيذ عمليات سرية، وتزداد قيمتها مع تصاعد أساليب التضليل والتزييف العميق، مما يجعلها عنصرًا حاسمًا لدعم القرارات الاستراتيجية في مواجهة الحروب غير النظامية[2].

تُعرف الاستخبارات البشرية بأنها فرع استخباراتي يعتمد على جمع المعلومات من مصادر بشرية لاختراق أنظمة صنع القرار لدى الخصم وكشف قدراته ونواياه، وتشمل أنشطتها الاستطلاع، الاستجواب، إدارة العملاء والمصادر السرية، وتُعد الاستخبارات البشرية أداة حيوية لدعم الوعي بالموقف وصنع القرار، خاصة في البيئات المعقدة، رغم تحدياتها مثل طول بناء الشبكات وقابليتها للتضليل[3].

وأكد مركز رع للدراسات الاستراتيجية أنه يهدف إلى تحليل تأثير التطور التكنولوجي، مثل الأقمار الصناعية، والذكاء الاصطناعي، والتصنت الإلكتروني، على أهمية الاستخبارات البشرية، فمع الطفرة في وسائل جمع البيانات، برز الجدل حول ما إذا كانت الاستخبارات البشرية قد تراجعت أهميتها أم ازدادت قيمتها كمصدر يوفر ما تعجز التكنولوجيا عن كشفه في بيئات الحروب المعقدة ، مثل فهم النوايا البشرية، والدوافع، والسياقات الثقافية.

أهمية متجددة

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة وعودة تنافس القوى الكبرى، تكتسب الاستخبارات البشرية أهمية متزايدة، خاصة في سياق الحروب غير النظامية التي باتت السمة الغالبة على النزاعات المعاصرة، ورغم التقدم الهائل في وسائل الرصد التقني كالاستخبارات الإشارية (SIGINT) والصورية (IMINT)، إلا أن هذه الأدوات تبقى عاجزة عن كشف النيات البشرية والدوافع المعقدة، أو التغلغل داخل الشبكات غير الرسمية.

وفي هذا السياق، تتفوق الاستخبارات البشرية، ليس فقط لقدرتها على جمع المعلومات، بل أيضًا لما تتيحه من بناء علاقات ثقة مع السكان المحليين والفاعلين غير الحكوميين، وهو ما يجعلها ضرورية لفهم البيئة الميدانية والتأثير فيها، فنجاح العمليات العسكرية، لا سيما في البيئات غير المستقرة، يعتمد إلى حد كبير على قدرة القوات على الاندماج في السياق الثقافي والاجتماعي واختراق شبكات الخصوم من الداخل.

وبالتالي تتجاوز الاستخبارات البشرية HUMINT وظيفتها التقليدية في جمع المعلومات لتصبح أداة للتأثير الاستراتيجي، عبر تعزيز النفوذ المحلي، ودعم جهود مكافحة الإرهاب، وحرمان الخصوم من حرية الحركة داخل مناطق النفوذ الحيوي. ولهذا، فإن الاستثمار في تنمية تلك القدرات يمثل أحد المفاتيح الأساسية لتحقيق التفوق في الصراعات الحالية والمستقبلية[4].

وعلى الرغم من التقدم الكبير في تقنيات جمع المعلومات، تظل الاستخبارات البشرية أداة لا غنى عنها لفهم النيات والدوافع الكامنة خلف القرارات السياسية والعسكرية، فالتكنولوجيا قد تكشف ما حدث، لكنها غالبًا تعجز عن تفسير لماذا حدث، كما أن الاعتماد على الاستخبارات البشرية يوفر رؤى عميقة حول السياقات النفسية والسياسية لصناع القرار، ويساعد على التنبؤ بتحركاتهم المستقبلية، فهي تعتمد على العلاقات والتواصل المباشر مع مصادر قريبة من مراكز اتخاذ القرار، ما يمنحها ميزة نوعية في بيئات تتسم بالغموض والتضليل المقصود، لذا، فإن تعزيز قدرات الاستخبارات البشرية ليس فقط مسألة أمنية، بل استراتيجية لفهم وتوجيه مجريات الأحداث على المسرح الدولي[5].

وأحد أبرز الأمثلة على فعالية الاستخبارات البشرية، كان استخدامها من قبل الولايات المتحدة قبل غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، حيث تم تسريب معلومات استخباراتية محددة لبناء إجماع دولي وإحباط جزء من الاستراتيجية الروسية، وعلى الرغم من أن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) تتمتع بكفاءة عالية في جمع المعلومات الحساسة والاستراتيجية، فإن وزارة الدفاع الأمريكية (DoD)، بما تمتلكه من انتشار واسع وقدرات تشغيلية ضخمة، تعد الجهة الأنسب لقيادة الاستخبارات البشرية على مستوى العمليات الميدانية، خصوصًا في مناطق النزاع النشطة[6].

أنماط توظيف الاستخبارات البشرية

تتمثل أنماط توظيف الاستخبارات البشرية في جمع المعلومات من مصادر بشرية مباشرة، سواء من خلال المقابلات أو الاستجوابات أو التجسس أو بناء شبكات من العملاء داخل المجتمعات المستهدفة أو في مناطق النزاع، كما تُستخدم الاستخبارات البشرية في مجموعة واسعة من المهام التي تتطلب فهمًا دقيقًا للسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعمل فيها القوات أو الأجهزة الأمنية، ومن أبرز هذه المهام:[7]

(*) كشف النوايا والاستراتيجيات: حيث تتيح الاستخبارات البشرية فهم الأبعاد الخفية لسلوك العدو أو الخصم، كالدوافع والقدرات والتوجهات المستقبلية، وهو ما لا يمكن استخلاصه من الصور أو الإشارات وحدها.

(*) التحقق من المعلومات: وذلك من خلال مقاطعة وتحليل الإفادات البشرية، يمكن لفرق الاستخبارات البشرية أن تؤكد أو تنفي تقارير استخباراتية واردة من مصادر أخرى مثل الأقمار الصناعية أو التنصت الإلكتروني.

(*) دعم العمليات الميدانية: توفر الاستخبارات البشرية معلومات آنية ومباشرة حول التحركات في بيئة العمليات، وهو أمر حاسم في النزاعات غير النظامية أو في التعامل مع التهديدات الإرهابية داخل المجتمعات المدنية.

(*) الاستجابة في البيئات منخفضة ومتوسطة الشدة: حيث تبرز أهمية الاستخبارات البشرية في عمليات مكافحة التمرد أو الإرهاب، كما حدث في أفغانستان والعراق، وحاليًا في الحروب الحديثة وغير المتماثلة مثل الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث يكون للعنصر البشري دور محوري في فهم التفاعلات على الأرض.

وقد أظهرت تجارب العديد من الجيوش، وعلى رأسها الجيش البريطاني ومشاة البحرية الأمريكية، أن النجاح في توظيف الاستخبارات البشرية يعتمد بدرجة كبيرة على اختيار العناصر البشرية المؤهلة، من حيث النضج والخبرة والمعرفة العميقة بثقافة المنطقة المستهدفة، إضافة إلى وجود قيادة فعالة وتنظيم إداري قادر على دعم هذا النوع من العمليات؛ ولذلك، تؤكد معظم أدبيات الاستخبارات والدراسات العسكرية الحديثة على ضرورة إعادة الاعتبار لدور الاستخبارات البشرية وتكثيف التدريب عليها، خاصة في ظل التحديات الأمنية الجديدة مثل الإرهاب العابر للحدود، وتهديدات الحروب الهجينة، والتداخل المتزايد بين المدني والعسكري في النزاعات الحديثة[8].

وفي ظل التطور المتسارع في تقنيات الرصد، مثل الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة وأنظمة الذكاء الاصطناعي، لا تزال الاستخبارات البشرية تمثل أداة لا غنى عنها لفهم البيئات المغلقة والمعقدة، وتُعد الحالة الإيرانية مثالًا بارزًا على ذلك، حيث برز دور العملاء داخل إيران كعنصر حاسم خلال فترات التوتر والحروب، فخلال السنوات الأخيرة، وخصوصًا في سياق الصراع الخفي بين إيران وإسرائيل، أثبتت العمليات التي اعتمدت على العملاء المحليين مدى تأثيرهم في جمع المعلومات الدقيقة، وتنفيذ مهام عالية الحساسية، لم تكن لتتحقق عبر الوسائل التقنية فقط، لقد تمكن هؤلاء العملاء من التغلغل داخل البنية التحتية الأمنية والعسكرية الإيرانية، ونقل معلومات حساسة تتعلق بالمنشآت النووية، وتحركات القيادات، وحتى المساهمة في تسهيل عمليات اغتيال استهدفت علماء نوويين وشخصيات أمنية بارزة، وتُظهر هذه العمليات أن الاستخبارات البشرية ليست مجرد خيار تكتيكي، بل أداة استراتيجية تُحدث فارقًا حقيقيًا في ساحات المعارك، فقد سمح تجنيد عملاء من الداخل، أو التعاون مع أطراف محلية، بخرق الحواجز الأمنية الإيرانية من الداخل، وهو ما عجزت عنه تقنيات الرصد الخارجي بمفردها[9]، وتتضح أنماط توظيف الاستخبارات البشرية فيما يلي:

التجنيد: يُعد التجنيد أحد أكثر أنماط الاستخبارات البشرية استخدامًا وتأثيرًا، ويعتمد على استقطاب الأفراد الذين لديهم قدرة على الوصول إلى معلومات حساسة داخل الدولة المستهدفة، وذلك من خلال التأثير على دوافعهم الشخصية أو الأيديولوجية أو المادية، وفي هذا السياق، تشكّل حادثة تفكيك شبكة التجسس التي أعلنت عنها إيران في يوليو 2019 مثالًا واقعيًا ومُعاصرًا على نمط التجنيد الاستخباراتي، فقد أعلنت وزارة الاستخبارات الإيرانية عن اعتقال 17 مواطنًا إيرانيًا بتهمة التجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، مؤكدة أن جميعهم اعترفوا بالعمل لصالح الوكالة، وقد أظهرت الوثائق الرسمية أن عملية التجنيد تمت عن طريق وسطاء خارج البلاد، واللافت في هذه الواقعة أن المستهدفين لم يكونوا عملاء أجانب، بل مواطنين محليين من داخل إيران، ما يعكس حرص وكالة الاستخبارات المركزية على اختراق النسيج الداخلي لمؤسسات الدولة الإيرانية من خلال عناصر محلية تملك سهولة الحركة والوصول إلى مراكز القرار والمعلومات، وتمثلت مهمة المجندين في جمع معلومات سرية من مراكز حساسة داخل الدولة، إضافة إلى المساهمة في عمليات فنية وتقنية، مما يعكس الطابع النوعي لعملية التجنيد وارتباطها بأهداف استراتيجية[10].

العملاء المزدوجون: يُعد نمط “العميل المزدوج” من أكثر أنماط الاستخبارات البشرية تعقيدًا وخطورة، حيث يقوم الفرد، وهو عادة موظف رسمي أو عسكري، بخيانة بلاده عبر تمرير معلومات حساسة إلى دولة أجنبية، بينما يواصل عمله ضمن الأجهزة الأمنية أو العسكرية التي تمنحه صلاحية الاطلاع على أسرار الدولة، وتُجسد قضية جوناثان توبي، المهندس النووي السابق في وزارة البحرية الأمريكية، تطبيقًا عمليًا لهذا النمط، ففي عام 2022، أُدين توبي وزوجته ديانا توبي بالتآمر لنقل بيانات مقيدة تتعلق بتصميم السفن الحربية العاملة بالطاقة النووية، وهي بيانات خاضعة للحماية بموجب قانون الطاقة الذرية، ما يجعل القضية خطيرة هو أن توبي كان يعمل في برنامج الدفع النووي البحري الأمريكي ويحمل تصريحًا أمنيًا عالي المستوى، مما مكّنه من الوصول إلى بيانات بالغة الحساسية حول مفاعلات الغواصات النووية الأمريكية، بما في ذلك التصميمات والمعايير التشغيلية والتقنية، ووفقًا للوثائق القضائية، لم يكتفِ توبي بالاحتفاظ بالمعلومات، بل شرع فعليًا في عرضها على حكومة أجنبية، يُعتقد أنها الصين بحسب تسريبات غير رسمية، حيث أرسل طردًا يحتوي على عينة من البيانات المقيدة وتعليمات لإنشاء قناة تواصل سرية، استخدم البريد الإلكتروني المشفر، وبدأ مفاوضات سرية مع شخص ظنه ممثلًا لدولة أجنبية، لكنه كان في الحقيقة عميلًا سريًا تابعًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)[11].

التسلل والعمليات الخاصة والتجنيد الداخلي: كشفت المواجهة العسكرية التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025 عن دور محوري للاستخبارات البشرية في إدارة وتوجيه مجريات الحرب، فوفقًا للتقرير الصادر عن أكاديمية الاستخبارات الوطنية التركية بعنوان “حرب الـ12 يومًا والدروس المستفادة لتركيا”، لعبت شبكات الاستخبارات الإسرائيلية داخل إيران دورًا متقدمًا في إضعاف قدرات الخصم، وتوجيه ضربات دقيقة استهدفت بنيته العسكرية والعلمية، حيث اعتمدت إسرائيل في هذه المواجهة على نمط “التسلل والعمليات الخاصة والتجنيد الداخلي” ضمن أنماط توظيف الاستخبارات البشرية، إذ كشفت المعطيات أن إسرائيل نجحت في الوصول إلى معلومات دقيقة عن تحركات قادة عسكريين وعلماء نوويين إيرانيين، ما مكنها من تنفيذ سلسلة اغتيالات نوعية، شملت شخصيات رفيعة مثل رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري وقائد الحرس الثوري حسين سلامي، إلى جانب عدد من كبار العلماء النوويين، وهذا النمط من التوظيف يرتكز على شبكات بشرية متغلغلة داخل أجهزة الدولة الإيرانية، سواء من خلال تجنيد عناصر داخلية بدوافع سياسية أو مالية، أو عبر عمليات تسلل استخباراتي عبر الحدود، وقد أسهمت هذه الشبكات في توفير معلومات تفصيلية مكّنت إسرائيل من توجيه ضربات دقيقة لمنشآت ومواقع حساسة، في لحظات حاسمة من النزاع، علاوة على ذلك، تؤكد هذه الحالة أن الاستخبارات البشرية لم تعد مجرد عنصر داعم للعمليات العسكرية، بل أصبحت أداة استراتيجية قادرة على قلب موازين الحرب. كما يُظهر النمط الإسرائيلي أن القدرة على زرع عملاء داخل بيئة العدو، وجمع معلومات ميدانية عالية الحساسية، وتنفيذ عمليات خاصة بناءً على تلك المعلومات، يشكل نموذجًا متقدمًا في توظيف الاستخبارات البشرية في الصراعات الإقليمية[12].

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، برزت الاستخبارات البشرية كأحد الأدوات الحيوية في إدارة الصراع بين الجانبين، وخصوصًا في ظل الطبيعة المعقدة للحرب التي امتدت إلى الجبهات، والمناطق الحضرية، والمجتمعات المحلية، ولعبت هذه الاستخبارات دورًا رئيسيًا في كشف التحركات، وتوجيه الضربات، ومواجهة التضليل الإعلامي والتكنولوجي، حيث نجد:

نمط التوظيف الاختراق والتجنيد المحلي: اعتمدت روسيا بشكل واسع على تجنيد متعاونين محليين في شرق أوكرانيا، خصوصًا في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، حيث ساهم هؤلاء في تزويد موسكو بمعلومات عن التحركات العسكرية الأوكرانية، والقدرات الدفاعية، والمراكز الحيوية، كما استخدمت روسيا نمط “الاختراق المؤسسي” من خلال زرع عملاء داخل المؤسسات الأوكرانية، بهدف تعطيل عملها أو تسريب خططها العسكرية والاستخباراتية.

نمط التجنيد العابر للحدود: وظّفت أوكرانيا الاستخبارات البشرية من خلال دعم غربي مباشر، لا سيما من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وجهاز الاستخبارات البريطانية (MI6)، وشمل ذلك تجنيد مصادر بشرية داخل روسيا نفسها، من أجل جمع معلومات حول مواقع البنية التحتية العسكرية، وخطط التحركات الروسية، ومواقع تخزين الأسلحة والذخائر.

وقد ساهمت المعلومات التي تم الحصول عليها من مصادر بشرية في توجيه الطائرات المسيّرة الأوكرانية نحو أهداف دقيقة، وتنفيذ عمليات خلف خطوط العدو، وتحديد مواقع قيادة وسيطرة حساسة، ومن جهة أخرى، مكنت المصادر الروسية من الحفاظ على السيطرة على بعض المناطق مؤقتًا، لكن اعتمادها المفرط على المخبرين المحليين جعلها عرضة لعمليات خداع واختراق مضادة[13].

التطور التكنولوجي وتأثيره على الاستخبارات البشرية

في ظل التقدم التكنولوجي المتسارع، تواجه الاستخبارات البشرية تحديات متزايدة تهدد فعاليتها التقليدية، مثل صعوبة تجنيد المصادر البشرية في بيئات مراقَبة رقميًا، وقد أدى تطور أدوات المراقبة والذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه، وتحليل البيانات الضخمة إلى تقليص هامش المناورة المتاح للعملاء الميدانيين، مما يجعل من الصعب تنفيذ عمليات التجسس السري التقليدية. وفي المقابل يزداد الاعتماد على الاستخبارات مفتوحة المصدر  (OSINT)، والتي أصبحت مدعومة بأدوات تحليلية متقدمة مثل التعلم الآلي ومعالجة اللغة الطبيعية، هذه الأدوات تتيح استخلاص معلومات دقيقة من وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات التجارية والمصادر العلنية الأخرى، مما يوفر بديلًا جزئيًا عن المعلومات البشرية، كذلك، يوفر التنبؤ الاحتمالي نهجًا جديدًا للتعامل مع فجوات الاستخبارات البشرية، من خلال توقع الأحداث المستقبلية بناءًا على بيانات علنية ضخمة[14].

وعلى الرغم من هذا التقدم، ما زالت الاستخبارات البشرية تحتفظ بأهمية استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها، خاصة في فهم الدوافع والسياقات المعقدة التي لا تظهر في البيانات التقنية المجردة، إلا أن اعتماد الحكومات على الاستخبارات البشرية بدأ يتراجع نسبيًا، بسبب عدة عوامل، أبرزها[15]:

صعوبة تجنيد العملاء البشريين في بيئات مراقبة مكثفة، وانتشار تقنيات التعرف على الوجوه، ومتابعة الاتصالات.

التحول إلى بيئات رقمية مغلقة ومشفرة يصعب على العناصر البشرية الوصول إليها دون تعريض أنفسهم لخطر كبير.

قلة الاستثمار في تدريب العناصر البشرية مقارنة بالاستثمار في التقنيات الحديثة.

زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في رصد التهديدات وتحليل السلوكيات عبر الإنترنت، كما هو الحال في برامج المراقبة الجماعية.

ومع ذلك، لا تزال الاستخبارات البشرية تلعب دورًا حاسمًا في بعض السياقات الحساسة التي تعجز التكنولوجيا عن اختراقها، مثل العمليات داخل التنظيمات المسلحة وفهم ثقافة المجتمعات المحلية أو رصد الخلافات الداخلية داخل الأنظمة السياسية المغلقة. ويشير الواقع إلى أن مستقبل الاستخبارات لا يقوم على استبعاد الاستخبارات البشرية، بل على دمجها بفعالية مع الأدوات الرقمية الحديثة، وهذا الدمج يفتح المجال أمام نموذج استخباراتي هجين يجمع بين الحس التحليلي البشري والقدرات الرقمية التنبؤية، بما يعزز دقة التقييمات وسرعة الاستجابة للتهديدات[16].

ختامًا؛ في ضوء التحولات الجذرية التي يشهدها المشهد الأمني العالمي نتيجة التطور التقني المتسارع، يبرز سؤال جوهري حول مستقبل الاستخبارات البشرية في عالم تهيمن عليه الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الرصد الإلكتروني المتقدمة، إلا أن التحليل المعمّق لتجارب الحروب المعاصرة، بدءًا من مكافحة الإرهاب في أفغانستان والعراق، وصولًا إلى النزاعات غير المتماثلة في أوكرانيا وإفريقيا، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الاستخبارات البشرية لا تزال تمثل حجر الزاوية في العمل الاستخباراتي، ليس فقط لأنها تسد فجوات تتركها الوسائل التقنية، بل لأنها تنفرد بقدرتها على النفاذ إلى النوايا والدوافع والثقافات والبيئات الاجتماعية، وهي عناصر لا يمكن للتكنولوجيا، مهما بلغت دقتها، أن تفسّرها بشكل شامل، فلقد أثبتت الممارسة أن التكنولوجيا قادرة على رصد ما يحدث، لكنها غير قادرة على التنبؤ بصورة دائمة وفعالة، وهو ما يجعل الاستخبارات البشرية أداة لا غنى عنها في فهم العدو والتنبؤ بخطواته وتفكيك شبكاته الداخلية. كما أن الاعتماد المفرط على التقنيات الرقمية دون غطاء بشري ميداني قد يؤدي إلى تفسيرات سطحية للواقع، بل وقد يُعرّض القرارات الاستراتيجية للخطأ، خاصة في بيئات مضلّلة أو خاضعة للدعاية والتزييف العميق.

لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل ما أحدثته التكنولوجيا من طفرة في أدوات الرصد والتحليل والتنبؤ، وهو ما يفتح المجال أمام تحوّل مفاهيمي في بناء منظومات الاستخبارات، بحيث لا يُنظر إلى الاستخبارات البشرية والتقنيات الرقمية كمجالين متنافسين، بل كركيزتين تكمل إحداهما الأخرى. فالنجاح في ميادين الحروب الحديثة يتطلب بناء نموذج استخباراتي هجين يوظف نقاط القوة في العنصر البشري – مثل الحس التحليلي، وفهم السياقات الثقافية، وبناء الثقة مع المجتمعات المحلية، إلى جانب الإمكانات التكنولوجية في تحليل البيانات الضخمة، والتقاط الإشارات الدقيقة، والتنبؤ بالتهديدات.

ومن هنا، تتجلّى التوصية المحورية حول ضرورة الاستثمار في تطوير قدرات الاستخبارات البشرية من خلال تدريب نوعي عالي المستوى، يستند إلى فهم عميق للثقافات المستهدفة وأساليب التجنيد الحديثة، مع تعزيز التكامل المنهجي بين الاستخبارات البشرية والرقمية. ويشمل ذلك تبني استراتيجيات مشتركة تجمع محللي البيانات مع عملاء الاستخبارات البشرية في غرف عمليات متكاملة، وتحديث السياسات الأمنية بما يسمح بمواكبة متطلبات الحروب الهجينة، التي تجمع بين الأسلحة التقليدية والرقمية، وبين التضليل الإعلامي والعمليات السيبرانية، وبين المواجهة المباشرة والحرب بالوكالة.

إن التحولات الجيوسياسية الراهنة لا تترك مجالًا للاختيار بين التكنولوجيا والبشر، بل تفرض على الدول والمؤسسات الأمنية أن تعيد هندسة منظوماتها الاستخباراتية بحيث تُراعي هذا التكامل الحيوي، فالتفوق الاستخباراتي في القرن الحادي والعشرين لن يتحقق إلا عبر دمج المهارات البشرية التحليلية مع الأدوات التقنية الذكية، في إطار رؤية استراتيجية طويلة المدى تستجيب للتحديات المعقّدة وتؤسس لقدرات ردع ووقاية واستشراف أكثر فعالية وواقعية.

تم نسخ الرابط