عاجل

كيف تؤثر هجرة الكفاءات على فرص التنمية الاقتصادية الإريترية؟

هجرة الشباب
هجرة الشباب

تُعد الهجرة ظاهرة اقتصادية واجتماعية معقدة، غالبًا ما تنشأ في بيئات تعاني من ضعف النمو وتقلص الفرص الإنتاجية. وفي الحالة الإريترية، تحوّلت الهجرة خلال العقود الماضية إلى مسار شبه دائم، نتيجة تباطؤ الاقتصاد وتراجع بيئة التمكين المحلي، رغم ما تمتلكه البلاد من موارد معدنية واعدة.

وفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، فمنذ استقلال إريتريا عام 1993 يعيش الإريتريون تحت وطأة منظومة تجنيد عسكري غير محددة المدة، علاوة على تقلب الأداء الاقتصادي ومحدودية الاستثمارات وفرص العمل النوعية، مما دفع أعدادًا متزايدة من الشباب وأصحاب المؤهلات إلى مغادرة البلاد. وقد ترتّب على ذلك تآكل في القاعدة الإنتاجية، وزيادة الاعتماد على التحويلات، وهوما يجعل من الهجرة سواء كانت شرعية أو غير شرعية عاملًا مؤثرًا في مستقبل التنمية الاقتصادية.

وبناءًا على ذلك، يناقش هذا المقال أبرز دوافع الهجرة في إريتريا، ويحلل انعكاساتها على الاقتصاد الوطني واستدامة التنمية.

محفزات الهجرة في إريتريا

تتنوع المحفزات المحتملة للهجرة بين المواطنين الإريتريين، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

(*) منظومة التجنيد العسكري: تعد الخدمة العسكرية في إريتريا واحدة من أبرز محفزات الهجرة؛ لأنه يؤثر سلبًا على بيئة العمل، فهي غير محددة المدة وتشمل الذكور والإناث من 18 حتى 40 عامًا. وتعود هذه السياسة إلى فترة حرب الحدود بين إريتريا وإثيوبيا (1998-2000)، مع فرض إجراءات غير مرنة على من يسعون للحصول على الإعفاءات. ومنذ منتصف عام 2022 وحتى نهاية 2023 تم تنفيذ حملات تجنيد جماعية عُرفت باسم “الجيفاس”، استهدفت من يتهربون من أداء الخدمة العسكرية. ولم تتوقف هذه الحملات عند الشباب، بل امتدت لتشمل طلاب المدارس الثانوية بعمر 18 عامًا، حيث يُجبر الطلاب الملتحقون بمدرسة وارساي الثانوية على قضاء سنتهم الأخيرة داخل معسكر “سوا” الذي يدمج التعليم مع التدريب العسكري في ظروف شاقة.

ولم يقتصر الأمر على الطلاب، بل يخضع المعلمون لأداء الخدمة العسكرية لسنوات داخل المدارس والمعسكرات دون أي مقابل مادي. كما شملت حملات التعبئة جنود احتياط تتراوح أعمارهم بين 50 و60 عامًا، تم الدفع بهم إلى الحدود.

(*) ضعف الانفتاح السياسي والتواصل المجتمعي: ساهم الانكماش الحاد في الحريات السياسية والإعلامية في تقويض بيئة الاستثمار وتراجع ثقة الكفاءات الوطنية، وهو ما أدى إلى موجات من الهجرة وتوقف العديد من المبادرات التنموية في مهدها.

(*) تقييد الحرية الدينية: تعترف الحكومة الإريترية بأربع معتقدات فقط هي: الكنيسة الأرثوذكسية التوحيدية الإريترية، الإسلام السني، الكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة الإنجيلية اللوثرية. أما المواطنون المنتمون إلى طوائف دينية أخرى فيُمنعون من ممارسة شعائرهم الدينية ويواجهون خطر الاعتقال التعسفي.

(*) تدني الإنفاق على التعليم: لقد عانت إريتريا على مدار عقود من  الركود الاقتصادي والانهيار المالي الذي خلفته الحرب بين إثيوبيا إريتريا التي استمرت لثلاث عقود مما يؤثر بشكل مباشر على الإنفاق العام، لا سيّما في قطاع التعليم. إذ تُعد البلاد من بين الدول الأعلى في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عالميًا، حيث بلغت هذه النسبة 211% في نهاية  2024 منها حوالي 80% موجه للبنوك المحلية، وفي عام 2022 خصصت الحكومة حوالي 33.4% من ميزانيتها لسداد أعباء الدين، مما انعكس سلبًا على تمويل قطاع التعليم.

منذ عام 2020، لم يتجاوز الإنفاق على التعليم 2% من الناتج المحلي وتُقدّر نسبة الأطفال في سن الدراسة الابتدائية خارج التعليم بنحو 48%، في حين لا تتجاوز نسبة الملتحقين بالتعليم العالي 4% من الذكور و3% من الإناث من إجمالي السكان. كما أن الأزمة تفاقمت نتيجة نقص المعلمين المؤهلين، بسبب إخضاع عدد كبير منهم للتجنيد العسكري ضمن الخدمة الوطنية وهجرة الجزء الآخر.

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نحو 71,571 مواطنًا إريتريًا قدّموا طلبات لجوء في عام 2023 للعديد من الدول وهو ما يُمثل 2% من إجمالي سكان البلاد. مما يوضح أن دوافع الهجرة ليست فردية أو استثنائية، بل ظاهرة جماعية تعكس انسداد الأفق الاقتصادي والاجتماعي أمام شرائح واسعة من المواطنين. كل ما سبق يعكس بيئة غير مؤهلة وطاردة للشباب، مما يدفعهم إلى الهجرة هربًا من واقع يفتقر إلى أبسط مقومات الاستقرار التعليمي والمهني.

التكلفة الاقتصادية للهجرة

لقد عانى الاقتصاد الإريتري من ضعف مزمن في الأداء لعقود، ولا يزال يسجل معدلات نمو منخفضة، معتمدًا بشكل أساسي على القطاع الزراعي، الذي يمثل نحو  17,6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، رغم هشاشته وارتباطه بالأمطار الموسمية. كما يعتمد على قطاع التعدين الذي يشكل قرابة 20% من الناتج المحلي. مما كان له أثر كبير على المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية التالية:

تراجع فرص العمل: تُظهر البيانات أن معدل البطالة العام بلغ ذروته عند 6.18% في عام 2021، قبل أن يشهد انخفاضًا تدريجيًا ليصل إلى 5.55% في عام 2024. ومع ذلك، تبقى بطالة الشباب (15–24 عامًا) مرتفعة نسبيًا، إذ بلغت 10,01% في عام 2023. أما من حيث النوع الاجتماعي، فقد بلغ معدل البطالة بين الذكور 5.12% مقابل 6.71% بين الإناث. وتعكس هذه الأرقام واقعًا يعاني من محدودية فرص العمل الحقيقية، مما يدفع العديد من الشباب إلى الهجرة بحثًا عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية وتلبية احتياجات أسرهم.

هروب الكفاءات: لم يقتصر النزوح من إريتريا على الفئات الفقيرة أو الشباب العاطلين، بل امتد ليشمل الكفاءات والعقول المدربة. فقد سجّل مؤشر هروب الكفاءات Human flight and brain drain لعام 2024 مستوى 8,7 من 10، بزيادة طفيفة عن 8,6 لعام 2023، وقد سُجلت أعلى قيمة للمؤشر عام 2019 بواقع 8,9، وهي النسبة الأعلى في منطقة القرن الإفريقي، ما يعكس تحديًا بنيويًا في قدرة الدولة على الاحتفاظ بمواردها البشرية المؤهلة.

وتُظهر الاتجاهات أن الهجرة باتت نمطًا متكرّرًا بين الفئات المنتجة اقتصاديًا، لا سيما خريجي الجامعات والعاملين في قطاعي التعليم والصحة خاصة الأطباء والخدمة العامة. والجدير بالذكر أن نحو 96% من مسؤولي الحكومة الذين أُرسلوا إلى الخارج بين عامي 1993 و2002 للتدريب لم يعودوا إلى البلاد، نتيجة تراجع الحوافز الاقتصادية وضعف بيئة العمل، وهو ما ساهم في إضعاف قدرة المؤسسات العامة على تأدية وظائفها.

ورغم المؤشرات الدولية، يصعب بناء تصور دقيق للفئات الأكثر تأثرًا بهذه الظاهرة داخل البلاد، نظرًا لغياب الشفافية وصعوبة الوصول إلى بيانات رسمية محدثة حول سوق العمل والحراك السكاني.

الاعتماد على التحويلات الخارجية: يتسم الاقتصاد الإريتري بأنه اقتصاد موجّه تتحكم فيه السلطة وحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة (PFDJ) الحاكم، مما يحد من ديناميكية القطاع الخاص مؤثرًا بشكل كبير على التحويلات الخارجية كمصدر تمويل رئيسي. فقد فرضت الدولة ضريبة تُعرف باسم “ضريبة الشتات” بنسبة 2% على تحويلات المغتربين، والتي تُستخدم غالبًا لتلبية الاحتياجات المعيشية للأسر، دون أن تُوظف في خلق فرص عمل أو تحفيز الإنتاج وتشجيع الاستثمارات على المدى الطويل. وتتم هذه التحويلات غالبًا عبر قنوات غير رسمية، مما يكشف هشاشة النظام المصرفي.

 

انعكاسات الهجرة على النمو الاقتصادي

 

إن العلاقة بين الهجرة والنمو الاقتصادي لا تسير في اتجاه واحد، بل تدور في حلقة تبادلية معقّدة؛ فتباطؤ النمو يؤدي إلى ضعف بيئة التمكين الاقتصادي، ما يدفع الكفاءات إلى الهجرة، فيما تعمّق الهجرة نفسها من أزمة النمو وتهدد استدامته. فبرغم ما تملكه الدولة من موارد طبيعية، لا تزال البرامج التنموية المدعومة من الأمم المتحدة في مجالات الصحة والتعليم وإدارة الموارد الطبيعية تواجه تحديات كبيرة نتيجة غياب الكفاءات البشرية.

 

وتُظهر مؤشرات النمو الاقتصادي هذا التحدي بوضوح؛ إذ بلغ متوسط معدل النمو نحو 4.72% خلال الفترة (1991–2023)، بينما سجل 2.5% في عام 2022، و2.6% في 2023، و2.9% في 2024. كما بلغ متوسط معدل الاستثمار الثابت خلال الفترة نفسها 13.33%، لكنه انخفض إلى 4.2% في 2024، ما يعكس نمطًا بطيئًا وغير مستدام للنمو على المدى الطويل، بحسب بيانات البنك الإفريقي للتنمية.

 

وتبقى آفاق النمو محدودة على المدى القصير بفعل السياسات المالية والنقدية المشددة، واعتماد الاقتصاد بشكل أساسي على الزراعة والتعدين بنسبة تفوق 20%. ويُعد تباطؤ النمو أحد أبرز دوافع هجرة الكفاءات الشابة الإريترية، بحثًا عن فرص أكثر استقرارًا خارج البلاد، ما يفاقم ظاهرة “هروب العقول”.

وفي ظل تباطؤ النمو، وتقلص فرص التمكين الاقتصادي المحلي، لا تجد الكفاءات طريقًا للبقاء، فتصبح الهجرة الخيار الوحيد لتحقيق الطموحات المهنية والاقتصادية، خاصة في مجالات الطب والتدريس والخدمات الميدانية وأصحاب المؤهلات العليا. ويعتمد الاقتصاد الإريتري بدرجة كبيرة على التحويلات المالية من المغتربين. ورغم مساهمتها المؤقتة في تلبية احتياجات الأسر، فإنها لا تُشكّل أساسًا حقيقيًا لتعزيز التنمية، خاصة في ظل شبه انعدام الاستثمارات الأجنبية نتيجة غياب بيئة جاذبة للمستثمرين.

 

أما على صعيد التنمية البشرية، فالشباب دون سن الثلاثين يشكّلون نحو 60% من السكان، إلا أن الهجرة تحرم الدولة من الاستفادة من هذه الفئة الحيوية. وقد بلغ مؤشر التنمية البشرية 0.503 في عام 2023، وهو أقل من مستواه في الصومال وجيبوتي، ما يُفسر جزئيًا تعثّر البرامج التنموية رغم الدعم الدولي، بسبب هجرة الكفاءات وضعف البنية التحتية.

وبذلك، تتجلى العلاقة التبادلية بين الهجرة والنمو الاقتصادي في سياق أوسع من الأزمات البنيوية، حيث يُنتج كل منهما الآخر، في حلقة لا تنكسر إلا بإصلاح جذري في سياسات التمكين والاستثمار البشري.

 

وختامًا؛ فعلى الرغم من امتلاك إريتريا لموارد طبيعية وبشرية واعدة، فإنها لم تُحسن استغلالها، بل تحوّلت إلى بيئة طاردة لأبنائها نتيجة للإدارة الصارمة للحياة العامة والتجاوزات المتكررة بحق الأفراد. هذا الواقع دفع الآلاف إلى الهجرة، مما أفرغ البلاد من كفاءاتها في شتى المجالات، وتسبّب في نزيف بشري مستمر على مدار عقود، انعكس سلبًا على أداء الاقتصاد، وعرقل فرص تحقيق تنمية بشرية واقتصادية حقيقية. ولمواجهة هذا النزيف على الدولة أن تعيد هيكلة كافة سياساتها الداخلية لاستثمار الموارد البشرية لتحقيق تنمية شاملة تنطلق من الداخل لا عبر الاعتماد على الشتات.

تم نسخ الرابط