عاجل

تعزيز الدور: دلالات زيارة مستشار ترامب إلى ليبيا

جانب من اللقاء
جانب من اللقاء

اتجه كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشئون الإفريقية مسعد بولس إلى زيارة ليبيا في 23 يوليو 2025. وتضمنت الزيارة إجراء لقاءات مع طرفي الأزمة انطلاقًا من طرابلس ولقاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، مؤكدًا خلال اللقاءات على أهمية دعم المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة والهادف لإجراء انتخابات بناء على قاعدة دستورية مُتفق عليها. والتقى بولس فيما بعد بقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، ونجله صدام على الرغم من وجود بعض التحفظات الأمريكية على حفتر منذ اندلاع الانقسام الداخلي بليبيا.

 

أهداف ودوافع الزيارة

 

ووفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، تؤشر زيارة بولس على اهتمام الولايات المتحدة بالعودة إلى الساحة الليبية، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

 

(*) إعادة التموضع: اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مشاركة دول حلف الناتو وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا في التدخل العسكري بليبيا، بغرض خلع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي من الحكم. وعلى الرغم من وجود خطط واضحة كانت تستهدف الإطاحة بحكم القذافي، لم تُخلق خطة تستهدف التخطيط لليوم التالي بعد خروجه من المشهد، مما نتج عنه دخول الدولة في حالة من الاضطراب، برزت بشكل كبير من خلال انقسام الدولة بين حكومة في الغرب، وأخرى في الشرق.

 

واتجه الموقف الأمريكي بعد التدخل العسكري نحو تجاهل ما يدور على الأراضي الليبية من أحداث، وما صاحب ذلك من دخول قوى إقليمية ودولية أخرى كأطراف غير مباشرة تعزز من استمرار الانقسام الداخلي.

 

وسعت القيادة السياسية الأمريكية بعد حملة الناتو بليبيا إلى الانكفاء عن الأزمة الليبية لصالح أهداف أخرى على مدار الفترات الرئاسية المختلفة، فقد اتجه الرئيس باراك أوباما إلى عدم التدخل في الشأن الليبي بعد عملية الناتو نتيجة لعملية اغتيال السفير الأمريكي بليبيا على سير علاقة الدولتين، والذي ظهر من خلال تعطيل مقر السفارة الأمريكية بليبيا للحساسية الموجودة من الشعب الليبي تجاه الولايات المتحدة. ومن زاوية أخرى، لم ير دونالد ترامب في فترته الأولى أن ليبيا يمكن أن تكون شريكًا اقتصاديًا يمكن الاعتماد عليه فيما بعد نتيجة لما بها من أزمات. وهو ما استمر خلال فترة الرئيس جو بايدن.

 

وفي الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، تواجه السياسية الأمريكية معضلات دولية مختلفة لا يسهل التعامل معها، نتيجة لاتساع دور عدة قوى دولية ودخولها في ساحة التنافس جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتأتي روسيا من جانب بما تعتمد عليه من محاولات خلق نفوذ داخلي لها بأي من دول الشرق الأوسط مثلما حدث في ليبيا وسوريا والسودان بالاعتماد على ضخ الأموال ونشر قوات شبه عسكرية لأحد طرفي الأزمة بغرض تحقيق أهداف سياسية واقتصادية مختلفة. ومن جانب آخر، ظهرت الصين في الآونة الأخيرة كقوة اقتصادية كبرى تصلح أن تكون شريكًا قويًا لكافة الدول النامية، ولاسيما بأفريقيا والشرق الأوسط كأحد أبرز المهددات التي ساهمت في إعادة رؤية الإدارة الأمريكية في دورها بأي أزمة قد تحدث على المستوى الدولي لما لها من انعكاسات على ميزان القوى.

 

وفي هذا الإطار، أتت زيارة مسعود بولس إلى ليبيا نتيجة لرغبة الولايات المتحدة في تعزيز دورها بالأزمة الليبية، بعد توجهها طوال الفترة الماضية نحو الانعزال عن الأزمة وترك مساحات لقوى أخرى كان لها بالغ الأثر في مسار الأزمة.

 

(*) موازنة الحضور الروسي: يُعد التدخل الروسي بليبيا أحد أهم العوامل المؤثرة في رغبة الجانب الأمريكي العودة من جديد لما يمثله التواجد الروسي من خطر على نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية. وظهرت ضرورة التواجد الأمريكي بالأراضي الليبية بشكل كبير بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد من منصبه وما نتج عن ذلك من الاعتماد الروسي على ليبيا كنقطة محورية بدلًا من سوريا.

 

كانت ليبيا المُنقسمة داخليًا بين معسكرين مسرحًا لتغلغل العديد من القوى الدولية، لا سيما روسيا التي اتجهت لدعم قوات الجيش الوطني الليبي المُسيطرة على شرق وجنوب البلاد. وأتى التواجد الروسي في ظل رؤية الرئيس فلاديمير بوتن ضرورة زيادة نفوذ بلاده بإفريقيا والشرق الأوسط، وهو ما كان واضحًا خلال التحركات الروسية التي بدأت منذ العام 2014، ويمكن رؤية توسع النفوذ الروسي في ضوء تراجع النفوذ الأوروبي بقارة إفريقيا وما نتج عنه من وجود فراغات تم استغلالها كوسيلة لإعادة التموضع الروسي بالقارة السمراء.

 

وزاد التغلغل الروسي بليبيا بشكل واضح بعد إسقاط حكم بشار الأسد بسوريا، وسط مخاوف من تراجع للنفوذ الروسي في سوريا التي كانت تعتبر نقطة مركزية يمكن استخدامها لدعم القوات التابعة لموسكو والموجودة بأكثر من دولة إفريقية. ونتيجة لذلك، يمكن اعتبار ليبيا في الفترة الحالية هي النقطة الأكثر أهمية لروسيا في الشرق الأوسط باعتبارها بوابة رئيسية يمكن من خلالها تأكيد التواجد الروسي بالشرق الأوسط من جانب، وبإفريقيا من جانب أخر، وهو ما يمكن استغلاله من خلال الاستفادة من الموارد الاقتصادية الموجودة بكلا المنطقتين، إضافة إلى الاعتماد على التواجد الروسي بليبيا كأداة تُستخدم في أي تسوية سياسية تتعلق بإنهاء العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا.

 

(*) ملف التهجير: أتت زيارة مسعود بولس إلى ليبيا في توقيت حرج يعاني فيه الشرق الأوسط من أزمات سياسية تعصف بأمن المنطقة جراء العدوان الإسرائيلي على غزة. ولذلك لا يمكن فصل تلك الزيارة عن رغبة الجانب الإسرائيلي بدعم الرئيس الأمريكي في محاولة إقناع العديد من الدول للقبول بتهجير الفلسطينيين، ولا سيما الدول المجاورة في ظل الرفض العربي التام لتصفية القضية الفلسطينية على الرغم من ضغوط واشنطن.

 

ويُمكن رؤية زيارة بولس كورقة ضغط على طرفي الأزمة بليبيا بهدف وضع ملف التهجير تحت النقاش، من خلال استغلال المساحة الكبيرة للدولة الليبية في ترحيل حوالي مليون فلسطيني من أراضيهم مقابل دعم الاقتصاد الليبي، ووقف كافة العقوبات المفروضة عليه. ويأتي عبد الحميد الدبيبة كأهم المُستهدفين من تلك الزيارة.

 

وتسير ليبيا في فلك رؤية الدول العربية كافة فيما يخص رفض تصفية القضية الفلسطينية، وما يصاحب ذلك من تهجير للفلسطينيين من أراضيهم بغرض تصفية القضية؛ حيث أكدت حكومة “الوحدة الوطنية” المؤقتة ضرورة دعم الشعب الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة على أرضه، إضافة إلى نفيها أي استعداد رسمي لاستقبال المهجرين. ومن جانب آخر، عبر مجلس النواب الليبي عن رفضه القاطع والدائم لأي محاولة مشبوهة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وما يصاحبها من عمليات تهجير.

 

الاقتصاد كوسيلة للتهدئة 

 

على الجانب الآخر تترقب الأطراف الليبية تدخلًا أمريكيًا وازنًا عبر استقطاب إدارة ترامب بالعروض الاقتصادية وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

 

(&) فرص التعاون الاقتصادي والأمني: قدمت حكومة الدبيبة عرض اقتصادي ضخم لمستشار البيت الأبيض مسعود بولس خلال زيارته إلى طرابلس. واعتمد العرض الاقتصادي على مشاريع جاهزة في قطاعات الكهرباء والمعادن والطاقة والبنية التحتية والصحة والاتصالات بقيمة تصل إلى 70 مليار دولار، مما يتيح بدوره التوغل الاقتصادي بليبيا على غرار رغبة الرئيس دونالد ترامب في إعادة هندسة الاقتصاد الأمريكي وما يتضمنه ذلك من الحصول على استثمارات ضخمة في دول العالم المختلفة. كما أكدت الولايات المتحدة رفضها لأي حكومة انتقالية جديدة حتى الاتفاق على دستور للدولة الليبية يهدف إلى إعادة توحيد الدولة بكافة مناطقها.

 

وتمثل زيارة بولس للدبيبة وما صاحبها من مكاسب فرصة مثالية تسمح لحكومته بالتقاط الأنفاس بعد ما واجهته طوال الفترة الماضية من ضغوطات داخلية وخارجية. ويمكن اعتبار عرض الدبيبة إشارة إلى الولايات المتحدة من جانب أنها شريك يمكن الوثوق به. ومن جانب آخر، لتحييد ضغوط القوى الدولية والإقليمية الموجودة بليبيا والتأكيد على أن حكومة الدبيبة ما زالت قادرة على خلق تحالفات يمكن أن تؤدي إلى تغيير المعادلة في أي لحظة، إضافة إلى كونها شريك يستطيع خلق فرص مثالية لأي طرف يسعى لدعم بقاء الحكومة في الفترة الحالية، ولا سيما تركيا التي تتعامل ببرجماتية واضحة مع الأزمة الليبية في الآونة الأخيرة.

 

وعلى الجانب الآخر استكمل بولس جولته داخل الأراضي الليبية من خلال زيارته للمشير خليفة حفتر بعد إتمام زيارته لحكومة الدبيبة بالغرب الليبي. ونُوقشت مجموعة من القضايا بالغة الأهمية بين كلا الطرفين أبرزها دعم الولايات المتحدة للجهود الرامية لتوحيد المؤسسات الليبية وتعزيز السيادة الوطنية، وما يصاحبه من تحقيق للازدهار. علاوة على ذلك، أشاد مسعود بولس بجهود المشير حفتر الهادفة لتحقيق الأمن والاستقرار بليبيا، نتيجة لما تم تحقيقه من تعزيز لمسارات حل الأزمة السياسية، وتحقيق التنمية الاقتصادية. وتطرق بولس وحفتر إلى مناقشة آفاق التعاون الاقتصادي على غرار ما حدث في الغرب الليبي ولاسيما في الشراكة الاقتصادية وما تُنتجه من مكاسب لجميع الأطراف.

 

(&) الاقتصاد كأداة تأثير: أتت العروض الاقتصادية المُقدمة للولايات المتحدة من الداخل الليبي في توقيت حرج يمتاز بانقسام الدولة بين طرفين، وما يصاحب ذلك من أزمات داخلية. وأتت رغبة الجانب الأمريكي في تعزيز حضوره الاقتصادي بليبيا بهدف الوصول إلى مكاسب أخرى أبرزها تقديم الولايات المتحدة كشريك محوري، بدلًا من دول أخرى مثل روسيا وتركيا. ومن جانب آخر، يمكن رؤية الأداة الاقتصادية المُعتمد عليها من البيت الأبيض كوسيلة تأثير ناعمة تهدف إلى تحقيق مبادئ مثل الحوكمة والشفافية من خلال ربطها بالاستثمار، وما ينتج عن ذلك من ترويض للأزمة الداخلية، وخلق حلول جديدة تساهم في تهدئة الأزمة. وبناء على ذلك، يمكن للولايات المتحدة الاعتماد على الاقتصاد كوسيلة تأثير لزيادة نفوذ الولايات المتحدة بليبيا من خلال خلق توازن دقيق في علاقاتها بطرفي الأزمة على حساب القوى الأخرى، مما يزيد من دورها في معادلات التوازن الإقليمي، وحلحلة الأزمات الداخلية الموجودة بأكثر من دولة بالشرق الأوسط، لا سيما ليبيا.

 

وبناءً على ذلك، يمكن رؤية الزيارة الأمريكية في ضوء رغبة إدارة دونالد ترامب في تحجيم النفوذ الروسي بإفريقيا والشرق الأوسط، من خلال إعادة التموضع الأمريكي المحسوب والقائم على محاولة خلق توازن يستهدف تحقيق شراكة بين الولايات المتحدة وطرفي الأزمة، بالاعتماد على العلاقات الاقتصادية وما يمكن أن يؤديه ذلك من تعزيز مساحة التفاهم التي تزيد من احتمالية خلق مسارات جديدة تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب المساعي الأممية التي تستهدف إيجاد حلول فعالة للأزمة.

 

وتُعد الدولة الليبية بما فيها من انقسامات تربة خصبة للتدخل الدولي والإقليمي، بغرض تحقيق أهداف ومصالح جيوسياسية واقتصادية. ويأتي ذلك في ظل الدعم الدولي والإقليمي المتباين لطرفي الأزمة، مما يُضعف بدوره من قدرة القوى الداخلية على اتخاذ قرارات سياسية تهدف إلى حلحلة الأزمة بدعم من القوى العربية الفاعلة.

 

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن رؤية الدور الأمريكي بمعزل عن دور قوى دولية أخرى مثل روسيا الداعمة للجيش الوطني الليبي، وتركيا الداعم الرئيسي لحكومة الدبيبة، ومصر الرافضة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال استغلال أي من دول المنطقة كبديل للفلسطينيين عن وطنهم الأم بالاعتماد على الأداة الاقتصادية التي تستهدف دفع الدول إلى الخضوع والانصياع للمطالب الأمريكية.

تم نسخ الرابط